×

Nous utilisons des cookies pour rendre LingQ meilleur. En visitant le site vous acceptez nos Politique des cookies.


image

Poetry *, تميم البرغوثي | مع تميم - شارع المُعز

تميم البرغوثي | مع تميم - شارع المُعز

كلما ضاقت علي

ذهبت إلى شارع المعز لدين الله الفاطمي في القاهرة

بعض الشوارع كالقصائد

وهذا الشارع تحديدا

يشبه القصيدة العربية من أكثر من وجه

كأنه البياض بين الشطرين في البيت

على يمينك صف منازل ومدارس ومساجد

وعن شمالك صف مثله

كأنها صدور وأعجاز

وأنت سائر في البياض الممتد بينهما

والشارع كالقصيدة

مبني على مفارقة الدائم والمؤقت

الباقي والزائل والعابر والمقيم

أبيات الشعر العربية تتكلم دائما عن ما هو مؤقت

عن المنزل المؤقت والخيام المحمولة على ظهور الإبل

عن الحب المؤقت والمهدد بالسفر أو بالصدود

عن السلم المؤقت والمهدد بالحرب

عن البطولة المؤقتة في الحرب والمهددة بالموت

ولكن القصيدة المكونة من كل هذه المؤقتات دائمة

وكان الشاعر القديم يقول

إني إذا قلت بيتا

مات قائله ومن يقال له

والبيت لم يمت

كذلك فإن هذا الشارع

جانباه ممتلئان بأسماء مضت ودول دالت

ولكنه يعطي الماشي فيه إحساسا بالدوام والاستمرار

والبيت في القصيدة

ينتهي في ذاته إلا أن عمله يستمر في ما بعده

عمله النحوي وعمله الوزني وعمله البلاغي

كأن طراز المسجد يملي على المسجد

الذي يليه أن يضاهيه في الجمال

وأن يفوقه معا

وأن يخلتف عنه ويوافقه معا

كما يملي بيت الشعر على الذي يليه

أن يوافقه في الوزن والقافية

وأن يختلف عنه في المعنى

مع انتسابه إليه اختلاف الولد عن أبيه مع إشباهه له

لشارع المعز لدين الله في القاهرة وزن

أعني أن له عروضا كعروض الشعر

كأنك تنقل خطواتك فيه بين سبب ووتد

وتتذكر أن الخليل بن أحمد

ومن بعده العرب لم يأتوا بتشبيه مقاطع الشعر

بحبال الخيام وأوتادها من فراغ

ولا أسموا الوحدة بيتا من فراغ

القصيدة مبنية من بيوت كالتي يعيش فيها الناس

وترتكز على أوتاد وتشد بأسباب

وكذلك البيوت

مبنية من معان كالتي تعيش في القصائد

ومعادلة البقاء والزوال

والحركة والسكون

تكاد تكون واحدة في الكيانين البيوت والبيوت

القصائد والمنازل الأشعار والأوطان

في اللغة العربية

كما في حياة الناس

لا يبدأ الكلام بسكون أبدا ولا يقف على حركة

فإن وقف على حركة كما في القصائد

كان لا بد من مدها حتى تسكن

فتتحول الكسرة ياء والضمة واوا والفتحة ألفا

ولا سكون يدوم إلا إذا كف الناس عن الكلام

الكلام عند العرب علامة الحياة

ومن سكن أو سكت فقد فارقها

ولذلك فقد اخترعوا كلاما لا يسكن

كلاما يبقى ويكرر آلاف السنين وأسموه الشعر

وهذا الشارع القصيدة كلام يرفض أن يسكن

أزوره وأعيد زيارته كما أعيد قراءة قصائد العباسيين

كلما قرأتها فاجأتك بحسن جديد

بمعنى جديد أي بكلام جديد

وكان يقول الحسن بن هانئ

يزيدك وجهها حسنا

إذا ما زدته نظرا

ما لجوئي إلى هذا الشارع إلا لجوء المستنجد

هو سجل لحكام مصر في الزمان الغابر

وقد أتعبني ما رأيته من حكام زماني تعبا شديدا

وهم يشعون ثباتا واستمرارا واستقرارا وبقاء في الحكم

تنظر إلى وجوههم وتقول:

يا الله هل سنبقى معهم للأبد؟

هل قضي علينا وعلى أعمارنا

أن تكون كفئران الزينة الراكضة داخل عجلة

فلا تصل إلى شيء إلا ضحك الزمان وأهله منها؟

أهو أحمد بن الحسين المتنبي في غضبه التاريخي

يثبت للمرة الألف أنه على صواب؟

سادات كل أناس من نفوسهم

وسادة المسلمين الأعبد القزم

هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم؟

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

أتيت إلى شارع المعز

ليلقنني درسا عن أن كل هذا مؤقت

وألا أصدق الدوام الدهني الثقيل في وجوه الحكام

إن السلاطين يمضون وإن الشارع يبقى

إن المعز لدين الله نفسه حين دخل مصر

قال له ابن هانئ الأندلسي

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

فكأنما أنت النبي محمد

وكأنما أنصارك الأنصار

فقال أهل مصر: " أول القصيدة كفر "

وذهبت مثلا

ولكن القصيدة نفسها

أي المدينة التي بناها المعز لم تكن كفرا

كانت القصيدة ببساطة القاهرة وتاريخها كله

إن السلاطين يمضون

حتى إن كانوا كراما كالمعز والعزيز

وصلاح الدين والعادل والصالح وقلاوون وابنيه

أو أخسة أنذالا كبعض من تعرفون

وأن يكون أول القصيدة كفرا

خير من أن يكون آخرها كفرا

والثورة كانت قصيدة

فإن كان هذا الذي نحن فيه آخرها فنحن في أسوأ حال

وفي أمس الحاجة لقصيدة جديدة


تميم البرغوثي | مع تميم - شارع المُعز Tamim Al-Barghouti | Mit Tamim - Al-Moez-Straße

كلما ضاقت علي

ذهبت إلى شارع المعز لدين الله الفاطمي في القاهرة

بعض الشوارع كالقصائد

وهذا الشارع تحديدا

يشبه القصيدة العربية من أكثر من وجه

كأنه البياض بين الشطرين في البيت

على يمينك صف منازل ومدارس ومساجد

وعن شمالك صف مثله

كأنها صدور وأعجاز

وأنت سائر في البياض الممتد بينهما

والشارع كالقصيدة

مبني على مفارقة الدائم والمؤقت

الباقي والزائل والعابر والمقيم

أبيات الشعر العربية تتكلم دائما عن ما هو مؤقت

عن المنزل المؤقت والخيام المحمولة على ظهور الإبل

عن الحب المؤقت والمهدد بالسفر أو بالصدود

عن السلم المؤقت والمهدد بالحرب

عن البطولة المؤقتة في الحرب والمهددة بالموت

ولكن القصيدة المكونة من كل هذه المؤقتات دائمة

وكان الشاعر القديم يقول

إني إذا قلت بيتا

مات قائله ومن يقال له

والبيت لم يمت

كذلك فإن هذا الشارع

جانباه ممتلئان بأسماء مضت ودول دالت

ولكنه يعطي الماشي فيه إحساسا بالدوام والاستمرار

والبيت في القصيدة

ينتهي في ذاته إلا أن عمله يستمر في ما بعده It ends in itself, but its work continues beyond it

عمله النحوي وعمله الوزني وعمله البلاغي

كأن طراز المسجد يملي على المسجد

الذي يليه أن يضاهيه في الجمال

وأن يفوقه معا

وأن يخلتف عنه ويوافقه معا

كما يملي بيت الشعر على الذي يليه

أن يوافقه في الوزن والقافية

وأن يختلف عنه في المعنى

مع انتسابه إليه اختلاف الولد عن أبيه مع إشباهه له

لشارع المعز لدين الله في القاهرة وزن

أعني أن له عروضا كعروض الشعر

كأنك تنقل خطواتك فيه بين سبب ووتد

وتتذكر أن الخليل بن أحمد

ومن بعده العرب لم يأتوا بتشبيه مقاطع الشعر

بحبال الخيام وأوتادها من فراغ

ولا أسموا الوحدة بيتا من فراغ

القصيدة مبنية من بيوت كالتي يعيش فيها الناس

وترتكز على أوتاد وتشد بأسباب

وكذلك البيوت

مبنية من معان كالتي تعيش في القصائد

ومعادلة البقاء والزوال

والحركة والسكون

تكاد تكون واحدة في الكيانين البيوت والبيوت

القصائد والمنازل الأشعار والأوطان

في اللغة العربية

كما في حياة الناس

لا يبدأ الكلام بسكون أبدا ولا يقف على حركة

فإن وقف على حركة كما في القصائد

كان لا بد من مدها حتى تسكن

فتتحول الكسرة ياء والضمة واوا والفتحة ألفا

ولا سكون يدوم إلا إذا كف الناس عن الكلام

الكلام عند العرب علامة الحياة

ومن سكن أو سكت فقد فارقها

ولذلك فقد اخترعوا كلاما لا يسكن

كلاما يبقى ويكرر آلاف السنين وأسموه الشعر

وهذا الشارع القصيدة كلام يرفض أن يسكن

أزوره وأعيد زيارته كما أعيد قراءة قصائد العباسيين

كلما قرأتها فاجأتك بحسن جديد

بمعنى جديد أي بكلام جديد

وكان يقول الحسن بن هانئ

يزيدك وجهها حسنا

إذا ما زدته نظرا

ما لجوئي إلى هذا الشارع إلا لجوء المستنجد

هو سجل لحكام مصر في الزمان الغابر

وقد أتعبني ما رأيته من حكام زماني تعبا شديدا

وهم يشعون ثباتا واستمرارا واستقرارا وبقاء في الحكم

تنظر إلى وجوههم وتقول:

يا الله هل سنبقى معهم للأبد؟

هل قضي علينا وعلى أعمارنا

أن تكون كفئران الزينة الراكضة داخل عجلة

فلا تصل إلى شيء إلا ضحك الزمان وأهله منها؟

أهو أحمد بن الحسين المتنبي في غضبه التاريخي

يثبت للمرة الألف أنه على صواب؟

سادات كل أناس من نفوسهم

وسادة المسلمين الأعبد القزم

هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم؟

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

أتيت إلى شارع المعز

ليلقنني درسا عن أن كل هذا مؤقت

وألا أصدق الدوام الدهني الثقيل في وجوه الحكام

إن السلاطين يمضون وإن الشارع يبقى

إن المعز لدين الله نفسه حين دخل مصر

قال له ابن هانئ الأندلسي

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

فكأنما أنت النبي محمد

وكأنما أنصارك الأنصار

فقال أهل مصر: " أول القصيدة كفر "

وذهبت مثلا

ولكن القصيدة نفسها

أي المدينة التي بناها المعز لم تكن كفرا

كانت القصيدة ببساطة القاهرة وتاريخها كله

إن السلاطين يمضون

حتى إن كانوا كراما كالمعز والعزيز

وصلاح الدين والعادل والصالح وقلاوون وابنيه

أو أخسة أنذالا كبعض من تعرفون

وأن يكون أول القصيدة كفرا

خير من أن يكون آخرها كفرا

والثورة كانت قصيدة

فإن كان هذا الذي نحن فيه آخرها فنحن في أسوأ حال

وفي أمس الحاجة لقصيدة جديدة