×

We use cookies to help make LingQ better. By visiting the site, you agree to our cookie policy.


image

سلسلة المرأة, المدارس..تعليم أم تعليب؟ (1)

المدارس..تعليم أم تعليب؟ (1)

السلام عليكم ورحمة الله.

أيها الكرام، لا زلنا نسير في سلسلة المرأة،

وقد وصلنا محطة: (المرأة والتَّعليم).

دعونا نعود لتاريخ التَّعليم المدرسيِّ الحديث، والَّذي هو مقدمةٌ للتعليم الجامعي.

لكن لماذا الانتقال إلى موضوعٍ آخرَ غيرِ المرأة؟

ليس انتقالًا بقدر ما هو تأسيس؛

لنرى: هل التَّعليمُ المعاصرُ يفي بحاجاتِ الفتاةِ الَّتي ستكونُ امرأةَ المستقبل؟

هل يُعينُها على أداء أدوارِها وما خُلقتْ من أجله؟

هل هو نافعٌ لها يُحقِّقُ لها الطُّمأنينةَ والسَّعادة وخيرَ الدُّنيا والآخرة؟

الكلام اليومَ عامٌّ في تعليمِ الولد والبنت والشَّابِّ والفتاة.

سنستعرض ميزاتِ التَّعلمِ والتَّعليم في الإسلام،

بدءًا من نزول الوحي؛ لنبقيَها في أذهاننا،

ثم نستعرض على ضوئها نشأةَ التَّعليم المدرسيِّ المعاصر المنتشرِ في العالم،

ومنه عالمنا الإسلاميّ.

فإنَّ من حقِّنا أن نعرف:

ما الَّذي جاء بنا إلى هذه الغرفِ الصَّفية

الَّتي نُمضي فيها (12- 14) سنةً من عمرِنا؟

المرحلةُ الأهمُّ الَّتي يتمُّ فيها صياغةُ شخصياتنا.

ومن حقنا أن نتساءل:

ماذا كان إسهامُ المدارسِ في وجودِ الطَّبيبِ الفاسدِ،

والمهندسِ الغاشِّ، والبائعِ السَّارقِ، والمسئولِ المختلسِ،

والفيزيائيِّ المتشككِ، والبُيولوجيّ الملحد، والدّكتورةِ النِّسويةِ، وغيرهم؟

أوَّلُ آيةٍ أنزلَها اللهُ تعالى على عبدِه محمَّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ-

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1].

أيها الإنسان: اقرأ وتعلَّم عن الكون والحياة،

وافهمهما باسمِ ربك،

منطلقًا من الإيمان به ربًا يربيك،

خلقك من علقٍ،

وهداك إلى تناقل العلوم، وبناءِ المعرفة بالقلم،

وبما أعطاك من فطرةٍ وعقلٍ قادرٍ على التَّعرفِ على الحقائق؛ لأنه من صُنع إلهٍ مطلقِ الكمال،

ليس عقلا جاء صدفةً خبطَ عشواء،

بل عقلٌ مهيأٌ من الخالق الأكرم، الَّذي يُريد للإنسانِ أن يتعلَّمَ ما لم يعلم.

اقرأ لتنتفعَ بعلمِك وتنفعَ الناس،

ولِتستدِلَّ بعلمك على عظمة الله فتشكرَه،

وتحققَ ما خُلقتَ من أجلِه من العبوديةِ له بمفهومها الشامل؛

فتسعدَ في الدُّنيا والآخرة.

رؤيةٌ كونيةُ تجعل الإنسانَ منسجمًا روحًا ونفسًا، عاطفةً وعقلًا،

فتنخرطُ قواهُ كلُّها في تحقيق الهدف الأسمى.

رؤيةٌ تنطلقُ من توحيد الله

فتُخرجُ لنا نفسًا موحِّدةً لخالِقها موحَّدةً في نظرتها،

لا نفسًا مشتتةً مفككةً.

انطلقَ المسلمون بهذه الرؤية وأنتجوا في العلومِ بأشكالِها نتاجًا ضخمًا،

وقد ذكرنا في (رحلة اليقين)

بعضَ المصادر الدالَّةِ على الأصولِ الإسلامية لكثيرٍ من العلوم والاختراعات،

بل والمنهجِ التجريبيِّ برُمَّته،

الأمر الذي يعترف به منصفو الغربيين.

النِّظامُ التَّعليميُّ في الإسلام فيه عواملُ حصانةٍ ومناعةٍ ضدَّ الإصابة بالفساد:

أولا: أنَّ التَّعليمَ تعبُّديٌّ، سواءً كان في علوم الشريعة أو علوم الطبيعة،

وبالتالي فثقافةُ (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك) [العلق:1] كانت مبثوثةً في المجتمع،

على مستوى الأسرةِ، من المؤدِّبين في الكتاتيب، في المساجد، في حِلَقِ العلم،

في المدارس التي نشأت في العصور الإسلامية.

وهذا يقودنا إلى العامل الثاني للحصانة، ألا وهو: المسئوليةُ المشترَكة.

الكلُّ يُشارك في تحمُّل مسئوليةِ التَّعليم،

ولا يُلقونَ بها على كاهل الدولة،

كذلك تَحمُّل المسئولية يُعطي مناعةً من انتشارالفساد،

حتى لو أُصِيبَتْ مؤسسةُ الحكم بالفساد؛

لأنَّ مكوناتِ المجتمع توطَّدت على:

«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» [صحيح البخاري]،

فسيسعى كلُّ راعٍ تقيٍّ إلى تخفيفِ الأضرار على من يرعاهم إذا فسد رأسُ الهرم،

وسيبقى الأبوانِ والمربّونَ يمارسونَ التَّعليمَ عبوديَّةً للهِ،

وهذا يُحافظُ على سلامة جذورِ المجتمعِ المسلمِ،

حتى وإنْ أصابَ الفسادُ الفروع،

فتُنبِتُ الجذورُ فروعًا سليمةً من جديد.

ثالثًا: صحةُ المرجعيِّةِ وثباتُها:

(اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1]، الوحيُ هو المرجعيِّةُ؛

فالقِيَمُ والمعاييرُ الضابطةُ للعلمِ ثابتةٌ لا تتغير.

انطلاقًا من الوحي، توفِّرُ الدولةُ البيئةَ اللازمةَ لبثِّ العلمِ الصَّحيح،

تُصدِّرُ المؤهلينَ، تَحمي الناسَ من المتلاعبين والعابثين الناشرين للجهلِ والضلال؛

لأنَّ حفظَ العقل من ضرورات الشريعة الخمس.

الدولة تضعُ الأُطُرَ، ثمَّ بعد ذلك هناك مرونةٌ منضبطةٌ بالوحي.

في المقابل، الناسُ يُحاسِبون الحاكمَ بناءً على الوحي أيضًا،

هناك مرجعيّة، مرجعيّةُ الوحي، لا يستطيعُ الحاكمُ المِساسَ بها ولا تغييرَها،

بل هو مكلفٌ بالقيام على مصالحِ الناس بحسْبِ هذه المرجعيَّة،

وإذا خالفها وَأَمَرَ بتعليمِ مَا يُخالفُ مصلحةَ الناس، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق،

بلْ يُؤخذُ على يده، ويُحملُ على الالتزامِ بالوحي؛ فسلطتُه ليست مطلقةً،

بل :(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول) [النساء: 59].

رابعًا: مراكزُ الثِّقلِ المَالي في الوضع الإسلامي الصحيح موجودةٌ في المجتمع،

ليست منهوبةً، ولا مُتَحكَّمًا بها من زُمْرَةٍ حاكمةٍ، ولا مِن طَبقةٍ رَأسِمَالِية؛

فالإسلامُ يُحارِبُ تركُّزَ المالِ في يدِ فئةٍ؛

(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7].

كونُ مراكزِ الثقلِ المالي في الناس،

هذا الاستقلال المالي يعني: أنَّ طلابَ العلم وأهلَ العلمِ بأشكالِه أحرارٌ في ما يقولون،

مكفيُّون، لا يُهدَّدونَ بأرزاقِهم،

ولا يَنتظرونَ راتبًا يُعطى من فئةٍ متحكِّمةٍ

ستمنعُ عنهم المالَ إذا امتنعوا عن الانصياعِ لأهوائها.

في هذهِ الأجواءِ الحُرَّةِ، كان للأوقافِ الإسلاميِّةِ دورٌ كبيرٌ عظيمٌ في التعلُّمِ:

يُخَصِّصُ مُسلِمٌ يَمتلكُ المالَ جزءًا من مالِه،

ويُبقيهِ أوقافًا جاريةً بعد وفاته، على تفريغِ أشخاصٍ لطلبِ العلمِ،

وهذا كان من عواملِ محافظةِ المحاضنِ الشَّعبيةِ على قوَّتِها،

ودورِها في تخريجِ العلماءِ في شتّى المجالاتِ،

حتى في فتراتِ انحدارِ مؤسسةِ الحُكم.

الأزهرُ -مثلًا- قبلَ أن يُفسدَهُ الاستعمارُ البريطانيُّ، كان يُنفَقُ عليه من الأوقاف؛

تَوَزُّعُ المالِ في الناس يَمنعُ من أنْ يُسَخَّرَ التَّعلُّمُ لمصلحةِ طُغمةٍ من أصحابِ رأسِ المالِ،

بل يكونُ المعنى التعبُّديُّ في التعلُّمِ هو الحاضر وبقوةٍ،

هدفُه أنْ تُحقِّقَ الأمةُ العبوديَّةَ للهِ بمعناها الشاملِ -كما بيَّنا.

وهذا يأخذُنا إلى الميزةِ الخامسةِ في منظومةِ التعلُّمِ الإسلاميِّة:

أن مخرجاتِ التَّعليمِ

لا تُقاسُ بتأهيلِ أفرادٍ لخدمةِ أصحابِ رأسِ المالِ، والشركاتِ العالميةِ في عبوديّةٍ مقنَّعةٍ،

بل تُقاسُ بتحقيقِ أهدافِ الوحي:

صَلاح دُنيا الناسِ وَآخرتِهم، وصلاح نفوسِهم، وَأرْوَاحهِم، وَأخْلاقِهم،

فيكون للفقيهِ قيمتُه، وللأمِّ المربيةِ قيمتُها،

معَ أنّ هؤلاءِ لا قيمةَ لهمْ في المنظومةِ الرأسماليِّة؛

لأنهمْ لا يَخدمونَ المنظومةَ الماديَّة.

كل هذا يهيئ الأجواء لكون السلطانِ بأيدي المسلمين،

ووجودِ أهل الحَلِّ والعَقْد من المسلمين،

ولظهورِ أجيالٍ من الأحرار الذين تلقُّوا تعليَمهم من مراكز الثقل المجتمعيّة التربويَّة،

وأمانُهم الاقتصاديُّ مرتبطٌ بمراكزِ الثِّقَلِ المجتمعيَّة الاقتصاديَّة،

فمقياسهم في قبول أو رفض ما يُطلب منهم: هل هو حقٌ أم باطلٌ فحسب؛

إذ لم يُعلَّموا العبوديّة لغير الله، ولا يُهدَّدُون في أرزاقهم.

إذن، تعليمٌ باسم الله،

وهو تعبُّدٌ يمارسه الجميع، ويتحمَّلون مسئوليَّته.

الوحي فيه: مصدرُ الحقائق الكبرى، والمحرِّكُ لاستكشاف العلوم، ومرجعيِّةٌ ثابتةٌ لا تتغير،

تعليمٌ تنسجمُ فيه مكوناتُ الإنسان،

والهدف منه: تحقيقُ الاستخلافِ والعبوديَّةِ لله بمعناها الشامل،

مرتبطٌ باقتصادٍ عادلٍ لا تحتكرُه فئةٌ،

وفيه عواملُ مناعةٍ مِنْ أنْ ينحرفَ، ومِنْ أنْ يُملى فيه على الأجيالِ أهواءُ طغمةٍ من البشر.

طيب، ما الذي كان يحدثُ في أوروبا في تلك الفترة؟

يُهِمُّنا أن نعرف؛ لأنَّ شَكلًا آخر تمامًا من التعليم كان يتَشَكَّل هناك في تلك الفترة،

ثمَّ لمَّا ضَعُفَ تمسُّكنا بالوحي، واحتلَّ الأوروبيُّون بلادَنا،

استطاعوا أن يُفككوا منظومةَ التعليم التي شرحناها؛

ليقضوا على عواملِ قوَّتِها وحصانتِها،

ويُحلِّوا محلَّها منظومتَهم، لكن مع تشويهٍ مُمَنهجٍ يضمنُ تبعيتنا لهم وتخلفَنا عن ركْبِهم.

كانت أوروبا تعيشُ بدايةً النظامَ الإقطاعيَّ الطبقيّ: أسيادٌ وعمَّالٌ،

والتعليمُ حِكرٌ على الطبقةِ الارستقراطية،

وإذا عُلِّم العمَّالُ شيئًا فإنما يُعلَّمُون بالقدر اللازم لزيادة الإنتاجيَّة للأسياد.

ثم جاء عصرُ النهضة والذي بدَأ في إيطاليا ما بين 1400 و1600 للميلاد،

حصلتْ فيه ثورةٌ على السُّلطاتِ القديمة،

وتشكلتْ دولٌ فيها مواطنونَ، لا أسياد وعمَّال،

تنفَّسَ الناسُ الصُّعدَاءَ قليلًا، قبلَ أن تظهرَ شيئًا فشيئًا طبقيَّةُ ثانيةُ: هيَ طبقيّةُ الرأسماليّة،

بعدَ اقتصارِ التعليمِ على طبقةٍ خاصَّة.

ظَهَرَ أنَّ الحلَّ الأمثلَ المُمكنَ اقتصاديَّا لتعليمِ الشعوبِ الأوروبيَّةِ مجانيًّا

هو إنشاءُ المدارسِ النِّظامية،

والهدفُ منها: ترسيخُ عقيدةِ الدولةِ في الأجيال (indoctrination)،

وزيادةُ القدرةِ الإنتاجيةِ للقُوى العاملةِ؛

ليُقوُّوا الدَّولةَ، ويشغلُوا المصانعَ، ويُسيطروا على الدُّولِ التي يحتلونها وينهبونَ خيراتِها.

وفي سبيل ذلك أُنشئ ما يسمى بالمدارس المصنعيِّة -"Factory Model of School"،

التي تُنتجُ إنسانًا منصاعًا مُقولبًا "Fashioned"؛ ليعملَ في المصنع.

ظهرتْ أُولى هذه المدارسِ في مملكةِ بروسيا في ألمانيا عام 1717،

وبإمكانك القراءةُ عن هذا النموذجِ من المدارس تحت عنوان:

(Prussian Education Model).

ثمَّ في النِّصفِ الثاني من القرنِ الـ(18) ظهرتْ الثورةُ الصناعيَّةُ الأولى،

أُخْرِجت المرأةُ من بيتِها،

ووُّزِعَ على النساء حبوبُ منعِ الحَمْل؛ لتفريغهنَّ لوقتٍ أطولَ للعملِ في المصانع.

وفي عام 1807 صدرَ القرارُ بإلزامِ المدارسِ في بروسيا بالخضوعِ لوزارةِ الداخليَّةِ؛

ليُدرَّسَ فيها ما يريدُه النظام.

يقول الفيلسوف الألماني Johann Gottlieb Fichte

في الخطاب الثاني بعنوان "الطابع العام للتعليم الجديد" من كتابه (خطابات إلى الأمة الألمانية)

"على المدارس أن تُقَولِبَ الشَّخص (must fashion the person)،

تُقَولِبَهُ بحيثُ لا يرى سِوى ما تريدُه أنتَ"؛

وذلك لأنَّ ألمانيا كانت في صراعاتٍ مع فرنسا خسرتْ فيها الكثير.

فشته اعتبرَ أنَّ الخطأَ الأكبرَ المتسببَ في ضَعْفِ التنشئةِ للألمانيين

هو الإرادةُ الحرةُ للتلاميذ؛

لأنَّ الشخصَ يبقى فيها مترددًا بين الخير والشر،

فعلى العكس، يجب أن تكون التنشئةُ الجيِّدةُ على أساسِ إعدامِ الإرادةِ الحرةِ،

فالهدفُ الذي يجبُ أن يُقولَبَ من أجلِه الطُّلابُ: هو تقويةُ الدولة؛

ولذا كان على الطلابِ أن يقفوا في الطوابيرِ الصَّباحيةِ في صفوفٍ كصفوفِ الجيش،

مع طقوسٍ إلزاميةٍ لتقديسِ الدولة.

بعد ذلك بحوالي ربعِ قرنٍ جاء الألماني فريدريك فروبل "Friedrich Fröbel"،

وأنشأ أول حضانة "Kindergarten" عام 1830،

وسببُ إنشائِها: أنَّ أمَّه ماتت،

تزوَّج أبوه فعاشَ مُهْمَلا من كِلَيْهِما: من أبيه وزوجةِ أبيه، في طفولةٍ بائسةٍ.

في هذه الفترة في عام 1835،

وبينما كانت بريطانيا تحتلُّ الهندَ التي كانت قبلها تحت حكم المسلمين.

وجَّه المؤرِّخُ والسياسيُّ البريطانيُّ توماس مكولي "Thomas Macaulay"

تقريرًا للحاكم البريطانيِّ في الهند بعنوان:

(تقريرٌ عن التَّعليم في الهند)،

وكان مِمَّا جاءَ فيه: "يجبُ علينا في الوقت الحاضر

أن نَّبذلَ قُصارى جهدِنا لإيجادِ فئةٍ تُشكِّلُ جسرًا بيننا وبين ملايين الناس الذين تحتَ حكمِنا،

فئةٍ من الهنود الذين مازالوا هنودًا بلونهم ودمائهم،

لكنَّهم (إنجليز) في أخلاقهم، وآرائهم، وملَكَاتِهم الفكرية، وأذواقِهم،

وقد نتركُ لهذه الفئةِ مهمةَ تَنْقِيحِ اللَّهجاتِ العاميَّةِ للبلاد،

بحيثُ يتمُّ إثراءُ هذهِ اللَّهجاتِ بمصطلحاتٍ علميَّةٍ مُستَعارَةٍ من التَّسمياتِ الغربيَّةِ،

فتصبحُ هذه الفِئة -بدرجاتها المختلفة-

ناقلاتٍ مناسبة تقوم بنَشْرِ المعارف بين الكتلة الأكبر من السكان".

إذنْ، فهذا هدفُ إنشاءِ المدارسِ في المستَعمَرات:

الإبقاءُ على احتلالِ البلادِ ثقافيًّا حتى بعد انجلاءِ المحتلِّ عسكريًّا.

أَبقِ هذا الوصف الدقيق الذي نَطَقَ به توماس مكولي؛

لتستحضرَه عند حديثنِا عن المدارس الدولية حاليًّا في بلاد المسلمين.

أثناءَ هذه التطورات كلِّها.

تمَّ نَقْلُ كثيرٍ من العلومِ من المسلمين إلى أوروبا، لكنْ مبتورةً عن أصولِها العقديَّةِ،

مقطوعةً عن جذورِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1].

وأصبحَ الشعارُ: "اقرأ باسم الدولة وقوتِها"،

والذي أصبحَ في واقعِ الأمرِ قراءةً باسمِ الإنسانِ وشهواتِه وطغيانِه.

عام 1843 انتقلتْ فكرةُ المدرسةِ المَصْنَعيَّةِ من بروسيا إلى أمريكا وأوروبا،

ثمَّ ما بين عاميّ 1852 و 1917

تم إقرارُ التعليمِ الإلزاميِّ والمدرسةِ الحكوميةِ في الولاياتِ الأمريكيةِ،

أولها: ماساتشوستس "Massachusetts"، وآخرها: ميسيسبي "Mississippi".

عام 1892 في أمريكا أقرَّ (10) أشخاص في ما يُعرفُ بـ "Committee of Ten"

جَعْلَ التَّعليمِ المدرسيِّ بشكلِه المعروفِ حتى الآن:

(12) سنة متضمنةً لمنهجِ اليونان معدَّلا مع اللغة الإنجليزية الحديثة والعلومِ والتاريخِ،

وبقيَ نظامُ الـ(12) عامًا إلى يومنا هذا في عامَّة دول العالم.

ولنا أن نسأل:

عندما استُنْسِخَ هذا النظامُ الذي وَضَعَهُ هؤلاءِ العشرة إلى دُول العالم الإسلامي اليوم:

هل تمَّ طرحُ التَّساؤلِ:

مَنْ هؤلاءِ؟ وما مرجعيَّاتُهم؟ ولماذا نعتمدُ نحن ما اعتمدوه هم؟

ما الأهدافُ التي كانوا يَسعونَ لتحقيقِها حينَ أقرُّوا هذا النظامَ التَّعليميَّ؟

في الإجابة عن هذه التساؤلاتِ، عُدنَا إلى سيرةِ أحدِ أهمِّ هؤلاءِ العشرةِ،

وهو "William T Harris" مفوَّضُ الولاياتٍ المتحدةٍ الأميركية للتَّعليمِ،

والذي قدَّم لرسالةٍ بعنوان: (Indian Education): تعليم الهنود،

يعني: الهنودَ الحُمْرَ الذين كانوا يَعيشون في أمريكا،

وقرأنا الوثيقةَ الأصليةَ للرسالة.

كخلفيَّةٍ تاريخيةٍ، الأراضي الأميركية كان سُكَّانُها الأصليون من الهنود الحُمر،

غزاها الأوروبيون، وقاموا بحَمَلات إبادةٍ ضدَّ السكانِ الأصليين،

قُتل فيها الملايين من الهنود الحمر،

في تاريخٍ أليمٍ تكلَّمنا عنه في كلمةِ: (نماذج السعادة البشرية)،

بعدما استتبَّ الأمرُ نِسبيًّا للأوروبيين،

بقيتْ تقعُ مناوشاتٍ بينهم وبين من تبقى من قبائل السُّكان الأصليين من الهنود الحمر.

في هذه الرسالة، كان مُفوَّضُ التعليم هاريس ورجلُ الحرب الجنرال توماس مورغان

يقدمان حلًّا لِتذويبِ أبناء الهنود الحُمر حضاريًّا في الحضارة الأميركية الجديدة،

بحيثُ لا يَعودون يُشكِّلون خطرًا على الغُزاة، الذين هم الآن السُّكان "الشرعيُّون" لأمريكا.

الحلُّ الأمثل الذي اقترحه الكاتبانِ هو: فرضُ نظامٍ جذريٍّ للتعليم،

(Radical System of Education)،

وذلك بعزل أطفال الهنود الحُمر مُنذ سنٍّ مبكِّرةٍ قدرَ الإمكان عن محيطِهم القَبَليِّ،

وإخضاعِهم جماعيًّا للتعليم الإجباري.

ويقول هاريس:" إنَّ سنةً أو سنتينِ أو ثلاثًا لا تُوفِّرُ على الأميركيين -بالقدر الكافي-

مصاريفَ الصِّراع مع الهنود، مثل (5) أو (10) سنوات من التَّعليم المدرسي؛

لأنَّ مدة التعليمِ القصيرةِ لا تُؤثِّر كثيرًا على الحياة القَبَليَّة للهنود،

ولا تحوِّلهم إلى مجتمعٍ مُنتجٍ صناعيًّا؛

مما يضطرُّ الدولةَ لحمايةِ نفسِها من خطرِ الهنود؛

بإنفاقِ مصاريفَ باهظةٍ باستمرار؛

لدعمِ القوَّةِ العسكريَّةِ اللازمةِ لمواجهتهم،

أو أنْ تضطرَّ الدولةُ لخيارِ سياسةِ الإبادةِ القاسي،

فيقترحُ هاريس التعاملَ مع الهنود بروحٍ تَبشِيريَّةٍ تَنصِيريَّةٍ،

وفرضَ تعليمٍ إجباريٍّ عليهم،

وإبعادَهم عن أهلِهم لمدةٍ تصلُ إلى (10) سنوات،

كشكلٍ من الانخراط الحضاري.

هذا هو وليام هاريس

أحدُ أهمِّ العشَرةِ الذين وضعوا النظامَ التعليميَّ المعمول به عالميًّا حتى الآن.

إدخال الأطفال في المدارس مبكرًا وإبقائهم فيها لمددٍ مطولة،

من أهم أهدافه: إضعافُ القوى القبليةِ،

وإضعافُ تأثيرِ آبائِهم عليهم،

وإملاءُ سياسة الدولة عليهم.

إذا تحققتْ هذه الأهدافُ في المجتمعات بهدوءٍ فبها ونعمتْ،

وإلا تكررَّ مثلُ هذا النموذجِ بشكلٍ سافرٍ،

كما يحصلُ الآن في الصِّين من انتزاعِ أبناءِ المسلمين (الإيغور) منهم،

وتنشئتِهم من قِبَلِ الدَّولةِ الشُيوعيةِ،

وإخراجِهم من دِينِهم وتاريخِهم؛

ليتحولوا -كبقيةِ الصِّينيين- إلى آلاتٍ بشريةٍ مُنْصَاعة.

أقرَّ هاريس بوجود قَولبةٍ للنَّاس عبرَ نظامِ التَّعليمِ المدرسيِّ،

حيثُ قال في كتابه (فلسفة التعليم):

"إنَّ 99% من الناس في كلِّ أُمَّةٍ مُتَحَضِّرةٍ هم كائناتٌ آليَّةٌ automata،

حريصون على السير في المسارات المحددة،


المدارس..تعليم أم تعليب؟ (1) Schools.. education or canning? (1)

السلام عليكم ورحمة الله.

أيها الكرام، لا زلنا نسير في سلسلة المرأة،

وقد وصلنا محطة: (المرأة والتَّعليم).

دعونا نعود لتاريخ التَّعليم المدرسيِّ الحديث، والَّذي هو مقدمةٌ للتعليم الجامعي.

لكن لماذا الانتقال إلى موضوعٍ آخرَ غيرِ المرأة؟

ليس انتقالًا بقدر ما هو تأسيس؛

لنرى: هل التَّعليمُ المعاصرُ يفي بحاجاتِ الفتاةِ الَّتي ستكونُ امرأةَ المستقبل؟

هل يُعينُها على أداء أدوارِها وما خُلقتْ من أجله؟

هل هو نافعٌ لها يُحقِّقُ لها الطُّمأنينةَ والسَّعادة وخيرَ الدُّنيا والآخرة؟

الكلام اليومَ عامٌّ في تعليمِ الولد والبنت والشَّابِّ والفتاة.

سنستعرض ميزاتِ التَّعلمِ والتَّعليم في الإسلام،

بدءًا من نزول الوحي؛ لنبقيَها في أذهاننا،

ثم نستعرض على ضوئها نشأةَ التَّعليم المدرسيِّ المعاصر المنتشرِ في العالم،

ومنه عالمنا الإسلاميّ.

فإنَّ من حقِّنا أن نعرف:

ما الَّذي جاء بنا إلى هذه الغرفِ الصَّفية

الَّتي نُمضي فيها (12- 14) سنةً من عمرِنا؟

المرحلةُ الأهمُّ الَّتي يتمُّ فيها صياغةُ شخصياتنا.

ومن حقنا أن نتساءل:

ماذا كان إسهامُ المدارسِ في وجودِ الطَّبيبِ الفاسدِ،

والمهندسِ الغاشِّ، والبائعِ السَّارقِ، والمسئولِ المختلسِ،

والفيزيائيِّ المتشككِ، والبُيولوجيّ الملحد، والدّكتورةِ النِّسويةِ، وغيرهم؟

أوَّلُ آيةٍ أنزلَها اللهُ تعالى على عبدِه محمَّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ-

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1].

أيها الإنسان: اقرأ وتعلَّم عن الكون والحياة،

وافهمهما باسمِ ربك،

منطلقًا من الإيمان به ربًا يربيك،

خلقك من علقٍ،

وهداك إلى تناقل العلوم، وبناءِ المعرفة بالقلم،

وبما أعطاك من فطرةٍ وعقلٍ قادرٍ على التَّعرفِ على الحقائق؛ لأنه من صُنع إلهٍ مطلقِ الكمال،

ليس عقلا جاء صدفةً خبطَ عشواء،

بل عقلٌ مهيأٌ من الخالق الأكرم، الَّذي يُريد للإنسانِ أن يتعلَّمَ ما لم يعلم.

اقرأ لتنتفعَ بعلمِك وتنفعَ الناس،

ولِتستدِلَّ بعلمك على عظمة الله فتشكرَه،

وتحققَ ما خُلقتَ من أجلِه من العبوديةِ له بمفهومها الشامل؛

فتسعدَ في الدُّنيا والآخرة.

رؤيةٌ كونيةُ تجعل الإنسانَ منسجمًا روحًا ونفسًا، عاطفةً وعقلًا،

فتنخرطُ قواهُ كلُّها في تحقيق الهدف الأسمى.

رؤيةٌ تنطلقُ من توحيد الله

فتُخرجُ لنا نفسًا موحِّدةً لخالِقها موحَّدةً في نظرتها،

لا نفسًا مشتتةً مفككةً.

انطلقَ المسلمون بهذه الرؤية وأنتجوا في العلومِ بأشكالِها نتاجًا ضخمًا،

وقد ذكرنا في (رحلة اليقين)

بعضَ المصادر الدالَّةِ على الأصولِ الإسلامية لكثيرٍ من العلوم والاختراعات،

بل والمنهجِ التجريبيِّ برُمَّته،

الأمر الذي يعترف به منصفو الغربيين.

النِّظامُ التَّعليميُّ في الإسلام فيه عواملُ حصانةٍ ومناعةٍ ضدَّ الإصابة بالفساد:

أولا: أنَّ التَّعليمَ تعبُّديٌّ، سواءً كان في علوم الشريعة أو علوم الطبيعة،

وبالتالي فثقافةُ (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك) [العلق:1] كانت مبثوثةً في المجتمع،

على مستوى الأسرةِ، من المؤدِّبين في الكتاتيب، في المساجد، في حِلَقِ العلم،

في المدارس التي نشأت في العصور الإسلامية.

وهذا يقودنا إلى العامل الثاني للحصانة، ألا وهو: المسئوليةُ المشترَكة.

الكلُّ يُشارك في تحمُّل مسئوليةِ التَّعليم،

ولا يُلقونَ بها على كاهل الدولة،

كذلك تَحمُّل المسئولية يُعطي مناعةً من انتشارالفساد،

حتى لو أُصِيبَتْ مؤسسةُ الحكم بالفساد؛

لأنَّ مكوناتِ المجتمع توطَّدت على:

«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» [صحيح البخاري]،

فسيسعى كلُّ راعٍ تقيٍّ إلى تخفيفِ الأضرار على من يرعاهم إذا فسد رأسُ الهرم،

وسيبقى الأبوانِ والمربّونَ يمارسونَ التَّعليمَ عبوديَّةً للهِ،

وهذا يُحافظُ على سلامة جذورِ المجتمعِ المسلمِ،

حتى وإنْ أصابَ الفسادُ الفروع،

فتُنبِتُ الجذورُ فروعًا سليمةً من جديد.

ثالثًا: صحةُ المرجعيِّةِ وثباتُها:

(اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1]، الوحيُ هو المرجعيِّةُ؛

فالقِيَمُ والمعاييرُ الضابطةُ للعلمِ ثابتةٌ لا تتغير.

انطلاقًا من الوحي، توفِّرُ الدولةُ البيئةَ اللازمةَ لبثِّ العلمِ الصَّحيح،

تُصدِّرُ المؤهلينَ، تَحمي الناسَ من المتلاعبين والعابثين الناشرين للجهلِ والضلال؛

لأنَّ حفظَ العقل من ضرورات الشريعة الخمس.

الدولة تضعُ الأُطُرَ، ثمَّ بعد ذلك هناك مرونةٌ منضبطةٌ بالوحي.

في المقابل، الناسُ يُحاسِبون الحاكمَ بناءً على الوحي أيضًا،

هناك مرجعيّة، مرجعيّةُ الوحي، لا يستطيعُ الحاكمُ المِساسَ بها ولا تغييرَها،

بل هو مكلفٌ بالقيام على مصالحِ الناس بحسْبِ هذه المرجعيَّة،

وإذا خالفها وَأَمَرَ بتعليمِ مَا يُخالفُ مصلحةَ الناس، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق،

بلْ يُؤخذُ على يده، ويُحملُ على الالتزامِ بالوحي؛ فسلطتُه ليست مطلقةً،

بل :(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول) [النساء: 59].

رابعًا: مراكزُ الثِّقلِ المَالي في الوضع الإسلامي الصحيح موجودةٌ في المجتمع،

ليست منهوبةً، ولا مُتَحكَّمًا بها من زُمْرَةٍ حاكمةٍ، ولا مِن طَبقةٍ رَأسِمَالِية؛

فالإسلامُ يُحارِبُ تركُّزَ المالِ في يدِ فئةٍ؛

(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7].

كونُ مراكزِ الثقلِ المالي في الناس،

هذا الاستقلال المالي يعني: أنَّ طلابَ العلم وأهلَ العلمِ بأشكالِه أحرارٌ في ما يقولون،

مكفيُّون، لا يُهدَّدونَ بأرزاقِهم،

ولا يَنتظرونَ راتبًا يُعطى من فئةٍ متحكِّمةٍ

ستمنعُ عنهم المالَ إذا امتنعوا عن الانصياعِ لأهوائها.

في هذهِ الأجواءِ الحُرَّةِ، كان للأوقافِ الإسلاميِّةِ دورٌ كبيرٌ عظيمٌ في التعلُّمِ:

يُخَصِّصُ مُسلِمٌ يَمتلكُ المالَ جزءًا من مالِه،

ويُبقيهِ أوقافًا جاريةً بعد وفاته، على تفريغِ أشخاصٍ لطلبِ العلمِ،

وهذا كان من عواملِ محافظةِ المحاضنِ الشَّعبيةِ على قوَّتِها،

ودورِها في تخريجِ العلماءِ في شتّى المجالاتِ،

حتى في فتراتِ انحدارِ مؤسسةِ الحُكم.

الأزهرُ -مثلًا- قبلَ أن يُفسدَهُ الاستعمارُ البريطانيُّ، كان يُنفَقُ عليه من الأوقاف؛

تَوَزُّعُ المالِ في الناس يَمنعُ من أنْ يُسَخَّرَ التَّعلُّمُ لمصلحةِ طُغمةٍ من أصحابِ رأسِ المالِ،

بل يكونُ المعنى التعبُّديُّ في التعلُّمِ هو الحاضر وبقوةٍ،

هدفُه أنْ تُحقِّقَ الأمةُ العبوديَّةَ للهِ بمعناها الشاملِ -كما بيَّنا.

وهذا يأخذُنا إلى الميزةِ الخامسةِ في منظومةِ التعلُّمِ الإسلاميِّة:

أن مخرجاتِ التَّعليمِ

لا تُقاسُ بتأهيلِ أفرادٍ لخدمةِ أصحابِ رأسِ المالِ، والشركاتِ العالميةِ في عبوديّةٍ مقنَّعةٍ،

بل تُقاسُ بتحقيقِ أهدافِ الوحي:

صَلاح دُنيا الناسِ وَآخرتِهم، وصلاح نفوسِهم، وَأرْوَاحهِم، وَأخْلاقِهم،

فيكون للفقيهِ قيمتُه، وللأمِّ المربيةِ قيمتُها،

معَ أنّ هؤلاءِ لا قيمةَ لهمْ في المنظومةِ الرأسماليِّة؛

لأنهمْ لا يَخدمونَ المنظومةَ الماديَّة.

كل هذا يهيئ الأجواء لكون السلطانِ بأيدي المسلمين،

ووجودِ أهل الحَلِّ والعَقْد من المسلمين،

ولظهورِ أجيالٍ من الأحرار الذين تلقُّوا تعليَمهم من مراكز الثقل المجتمعيّة التربويَّة،

وأمانُهم الاقتصاديُّ مرتبطٌ بمراكزِ الثِّقَلِ المجتمعيَّة الاقتصاديَّة،

فمقياسهم في قبول أو رفض ما يُطلب منهم: هل هو حقٌ أم باطلٌ فحسب؛

إذ لم يُعلَّموا العبوديّة لغير الله، ولا يُهدَّدُون في أرزاقهم.

إذن، تعليمٌ باسم الله،

وهو تعبُّدٌ يمارسه الجميع، ويتحمَّلون مسئوليَّته.

الوحي فيه: مصدرُ الحقائق الكبرى، والمحرِّكُ لاستكشاف العلوم، ومرجعيِّةٌ ثابتةٌ لا تتغير،

تعليمٌ تنسجمُ فيه مكوناتُ الإنسان،

والهدف منه: تحقيقُ الاستخلافِ والعبوديَّةِ لله بمعناها الشامل،

مرتبطٌ باقتصادٍ عادلٍ لا تحتكرُه فئةٌ،

وفيه عواملُ مناعةٍ مِنْ أنْ ينحرفَ، ومِنْ أنْ يُملى فيه على الأجيالِ أهواءُ طغمةٍ من البشر.

طيب، ما الذي كان يحدثُ في أوروبا في تلك الفترة؟

يُهِمُّنا أن نعرف؛ لأنَّ شَكلًا آخر تمامًا من التعليم كان يتَشَكَّل هناك في تلك الفترة،

ثمَّ لمَّا ضَعُفَ تمسُّكنا بالوحي، واحتلَّ الأوروبيُّون بلادَنا،

استطاعوا أن يُفككوا منظومةَ التعليم التي شرحناها؛

ليقضوا على عواملِ قوَّتِها وحصانتِها،

ويُحلِّوا محلَّها منظومتَهم، لكن مع تشويهٍ مُمَنهجٍ يضمنُ تبعيتنا لهم وتخلفَنا عن ركْبِهم.

كانت أوروبا تعيشُ بدايةً النظامَ الإقطاعيَّ الطبقيّ: أسيادٌ وعمَّالٌ،

والتعليمُ حِكرٌ على الطبقةِ الارستقراطية،

وإذا عُلِّم العمَّالُ شيئًا فإنما يُعلَّمُون بالقدر اللازم لزيادة الإنتاجيَّة للأسياد.

ثم جاء عصرُ النهضة والذي بدَأ في إيطاليا ما بين 1400 و1600 للميلاد،

حصلتْ فيه ثورةٌ على السُّلطاتِ القديمة،

وتشكلتْ دولٌ فيها مواطنونَ، لا أسياد وعمَّال،

تنفَّسَ الناسُ الصُّعدَاءَ قليلًا، قبلَ أن تظهرَ شيئًا فشيئًا طبقيَّةُ ثانيةُ: هيَ طبقيّةُ الرأسماليّة،

بعدَ اقتصارِ التعليمِ على طبقةٍ خاصَّة.

ظَهَرَ أنَّ الحلَّ الأمثلَ المُمكنَ اقتصاديَّا لتعليمِ الشعوبِ الأوروبيَّةِ مجانيًّا

هو إنشاءُ المدارسِ النِّظامية،

والهدفُ منها: ترسيخُ عقيدةِ الدولةِ في الأجيال (indoctrination)،

وزيادةُ القدرةِ الإنتاجيةِ للقُوى العاملةِ؛

ليُقوُّوا الدَّولةَ، ويشغلُوا المصانعَ، ويُسيطروا على الدُّولِ التي يحتلونها وينهبونَ خيراتِها.

وفي سبيل ذلك أُنشئ ما يسمى بالمدارس المصنعيِّة -"Factory Model of School"،

التي تُنتجُ إنسانًا منصاعًا مُقولبًا "Fashioned"؛ ليعملَ في المصنع.

ظهرتْ أُولى هذه المدارسِ في مملكةِ بروسيا في ألمانيا عام 1717،

وبإمكانك القراءةُ عن هذا النموذجِ من المدارس تحت عنوان:

(Prussian Education Model).

ثمَّ في النِّصفِ الثاني من القرنِ الـ(18) ظهرتْ الثورةُ الصناعيَّةُ الأولى،

أُخْرِجت المرأةُ من بيتِها،

ووُّزِعَ على النساء حبوبُ منعِ الحَمْل؛ لتفريغهنَّ لوقتٍ أطولَ للعملِ في المصانع.

وفي عام 1807 صدرَ القرارُ بإلزامِ المدارسِ في بروسيا بالخضوعِ لوزارةِ الداخليَّةِ؛

ليُدرَّسَ فيها ما يريدُه النظام.

يقول الفيلسوف الألماني Johann Gottlieb Fichte

في الخطاب الثاني بعنوان "الطابع العام للتعليم الجديد" من كتابه (خطابات إلى الأمة الألمانية)

"على المدارس أن تُقَولِبَ الشَّخص (must fashion the person)،

تُقَولِبَهُ بحيثُ لا يرى سِوى ما تريدُه أنتَ"؛

وذلك لأنَّ ألمانيا كانت في صراعاتٍ مع فرنسا خسرتْ فيها الكثير.

فشته اعتبرَ أنَّ الخطأَ الأكبرَ المتسببَ في ضَعْفِ التنشئةِ للألمانيين

هو الإرادةُ الحرةُ للتلاميذ؛

لأنَّ الشخصَ يبقى فيها مترددًا بين الخير والشر،

فعلى العكس، يجب أن تكون التنشئةُ الجيِّدةُ على أساسِ إعدامِ الإرادةِ الحرةِ،

فالهدفُ الذي يجبُ أن يُقولَبَ من أجلِه الطُّلابُ: هو تقويةُ الدولة؛

ولذا كان على الطلابِ أن يقفوا في الطوابيرِ الصَّباحيةِ في صفوفٍ كصفوفِ الجيش،

مع طقوسٍ إلزاميةٍ لتقديسِ الدولة.

بعد ذلك بحوالي ربعِ قرنٍ جاء الألماني فريدريك فروبل "Friedrich Fröbel"،

وأنشأ أول حضانة "Kindergarten" عام 1830،

وسببُ إنشائِها: أنَّ أمَّه ماتت،

تزوَّج أبوه فعاشَ مُهْمَلا من كِلَيْهِما: من أبيه وزوجةِ أبيه، في طفولةٍ بائسةٍ.

في هذه الفترة في عام 1835،

وبينما كانت بريطانيا تحتلُّ الهندَ التي كانت قبلها تحت حكم المسلمين.

وجَّه المؤرِّخُ والسياسيُّ البريطانيُّ توماس مكولي "Thomas Macaulay"

تقريرًا للحاكم البريطانيِّ في الهند بعنوان:

(تقريرٌ عن التَّعليم في الهند)،

وكان مِمَّا جاءَ فيه: "يجبُ علينا في الوقت الحاضر

أن نَّبذلَ قُصارى جهدِنا لإيجادِ فئةٍ تُشكِّلُ جسرًا بيننا وبين ملايين الناس الذين تحتَ حكمِنا،

فئةٍ من الهنود الذين مازالوا هنودًا بلونهم ودمائهم،

لكنَّهم (إنجليز) في أخلاقهم، وآرائهم، وملَكَاتِهم الفكرية، وأذواقِهم،

وقد نتركُ لهذه الفئةِ مهمةَ تَنْقِيحِ اللَّهجاتِ العاميَّةِ للبلاد،

بحيثُ يتمُّ إثراءُ هذهِ اللَّهجاتِ بمصطلحاتٍ علميَّةٍ مُستَعارَةٍ من التَّسمياتِ الغربيَّةِ،

فتصبحُ هذه الفِئة -بدرجاتها المختلفة-

ناقلاتٍ مناسبة تقوم بنَشْرِ المعارف بين الكتلة الأكبر من السكان".

إذنْ، فهذا هدفُ إنشاءِ المدارسِ في المستَعمَرات:

الإبقاءُ على احتلالِ البلادِ ثقافيًّا حتى بعد انجلاءِ المحتلِّ عسكريًّا.

أَبقِ هذا الوصف الدقيق الذي نَطَقَ به توماس مكولي؛

لتستحضرَه عند حديثنِا عن المدارس الدولية حاليًّا في بلاد المسلمين.

أثناءَ هذه التطورات كلِّها.

تمَّ نَقْلُ كثيرٍ من العلومِ من المسلمين إلى أوروبا، لكنْ مبتورةً عن أصولِها العقديَّةِ،

مقطوعةً عن جذورِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1].

وأصبحَ الشعارُ: "اقرأ باسم الدولة وقوتِها"،

والذي أصبحَ في واقعِ الأمرِ قراءةً باسمِ الإنسانِ وشهواتِه وطغيانِه.

عام 1843 انتقلتْ فكرةُ المدرسةِ المَصْنَعيَّةِ من بروسيا إلى أمريكا وأوروبا،

ثمَّ ما بين عاميّ 1852 و 1917

تم إقرارُ التعليمِ الإلزاميِّ والمدرسةِ الحكوميةِ في الولاياتِ الأمريكيةِ،

أولها: ماساتشوستس "Massachusetts"، وآخرها: ميسيسبي "Mississippi".

عام 1892 في أمريكا أقرَّ (10) أشخاص في ما يُعرفُ بـ "Committee of Ten"

جَعْلَ التَّعليمِ المدرسيِّ بشكلِه المعروفِ حتى الآن:

(12) سنة متضمنةً لمنهجِ اليونان معدَّلا مع اللغة الإنجليزية الحديثة والعلومِ والتاريخِ،

وبقيَ نظامُ الـ(12) عامًا إلى يومنا هذا في عامَّة دول العالم.

ولنا أن نسأل:

عندما استُنْسِخَ هذا النظامُ الذي وَضَعَهُ هؤلاءِ العشرة إلى دُول العالم الإسلامي اليوم:

هل تمَّ طرحُ التَّساؤلِ:

مَنْ هؤلاءِ؟ وما مرجعيَّاتُهم؟ ولماذا نعتمدُ نحن ما اعتمدوه هم؟

ما الأهدافُ التي كانوا يَسعونَ لتحقيقِها حينَ أقرُّوا هذا النظامَ التَّعليميَّ؟

في الإجابة عن هذه التساؤلاتِ، عُدنَا إلى سيرةِ أحدِ أهمِّ هؤلاءِ العشرةِ،

وهو "William T Harris" مفوَّضُ الولاياتٍ المتحدةٍ الأميركية للتَّعليمِ،

والذي قدَّم لرسالةٍ بعنوان: (Indian Education): تعليم الهنود،

يعني: الهنودَ الحُمْرَ الذين كانوا يَعيشون في أمريكا،

وقرأنا الوثيقةَ الأصليةَ للرسالة.

كخلفيَّةٍ تاريخيةٍ، الأراضي الأميركية كان سُكَّانُها الأصليون من الهنود الحُمر،

غزاها الأوروبيون، وقاموا بحَمَلات إبادةٍ ضدَّ السكانِ الأصليين،

قُتل فيها الملايين من الهنود الحمر،

في تاريخٍ أليمٍ تكلَّمنا عنه في كلمةِ: (نماذج السعادة البشرية)،

بعدما استتبَّ الأمرُ نِسبيًّا للأوروبيين،

بقيتْ تقعُ مناوشاتٍ بينهم وبين من تبقى من قبائل السُّكان الأصليين من الهنود الحمر.

في هذه الرسالة، كان مُفوَّضُ التعليم هاريس ورجلُ الحرب الجنرال توماس مورغان

يقدمان حلًّا لِتذويبِ أبناء الهنود الحُمر حضاريًّا في الحضارة الأميركية الجديدة،

بحيثُ لا يَعودون يُشكِّلون خطرًا على الغُزاة، الذين هم الآن السُّكان "الشرعيُّون" لأمريكا.

الحلُّ الأمثل الذي اقترحه الكاتبانِ هو: فرضُ نظامٍ جذريٍّ للتعليم،

(Radical System of Education)،

وذلك بعزل أطفال الهنود الحُمر مُنذ سنٍّ مبكِّرةٍ قدرَ الإمكان عن محيطِهم القَبَليِّ،

وإخضاعِهم جماعيًّا للتعليم الإجباري.

ويقول هاريس:" إنَّ سنةً أو سنتينِ أو ثلاثًا لا تُوفِّرُ على الأميركيين -بالقدر الكافي-

مصاريفَ الصِّراع مع الهنود، مثل (5) أو (10) سنوات من التَّعليم المدرسي؛

لأنَّ مدة التعليمِ القصيرةِ لا تُؤثِّر كثيرًا على الحياة القَبَليَّة للهنود،

ولا تحوِّلهم إلى مجتمعٍ مُنتجٍ صناعيًّا؛

مما يضطرُّ الدولةَ لحمايةِ نفسِها من خطرِ الهنود؛

بإنفاقِ مصاريفَ باهظةٍ باستمرار؛

لدعمِ القوَّةِ العسكريَّةِ اللازمةِ لمواجهتهم،

أو أنْ تضطرَّ الدولةُ لخيارِ سياسةِ الإبادةِ القاسي،

فيقترحُ هاريس التعاملَ مع الهنود بروحٍ تَبشِيريَّةٍ تَنصِيريَّةٍ،

وفرضَ تعليمٍ إجباريٍّ عليهم،

وإبعادَهم عن أهلِهم لمدةٍ تصلُ إلى (10) سنوات،

كشكلٍ من الانخراط الحضاري.

هذا هو وليام هاريس

أحدُ أهمِّ العشَرةِ الذين وضعوا النظامَ التعليميَّ المعمول به عالميًّا حتى الآن.

إدخال الأطفال في المدارس مبكرًا وإبقائهم فيها لمددٍ مطولة،

من أهم أهدافه: إضعافُ القوى القبليةِ،

وإضعافُ تأثيرِ آبائِهم عليهم،

وإملاءُ سياسة الدولة عليهم.

إذا تحققتْ هذه الأهدافُ في المجتمعات بهدوءٍ فبها ونعمتْ،

وإلا تكررَّ مثلُ هذا النموذجِ بشكلٍ سافرٍ،

كما يحصلُ الآن في الصِّين من انتزاعِ أبناءِ المسلمين (الإيغور) منهم،

وتنشئتِهم من قِبَلِ الدَّولةِ الشُيوعيةِ،

وإخراجِهم من دِينِهم وتاريخِهم؛

ليتحولوا -كبقيةِ الصِّينيين- إلى آلاتٍ بشريةٍ مُنْصَاعة.

أقرَّ هاريس بوجود قَولبةٍ للنَّاس عبرَ نظامِ التَّعليمِ المدرسيِّ،

حيثُ قال في كتابه (فلسفة التعليم):

"إنَّ 99% من الناس في كلِّ أُمَّةٍ مُتَحَضِّرةٍ هم كائناتٌ آليَّةٌ automata،

حريصون على السير في المسارات المحددة،