×

We use cookies to help make LingQ better. By visiting the site, you agree to our cookie policy.


image

سلسلة المرأة, "بَس تربية؟" (2)

"بَس تربية؟" (2)

يُلحِدون أو يميلون للشُّذوذ، وآباؤهم مُستغرِبون،

مِن ماذا تستغربون؟!

هل حصَّنتُم أبناءكم وأحطتُموهم بنُصحِكُم كما أمر نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟!

أم أنَّ أعداءكم زرعوا في أبنائكم وأنتم غافلون، فها هُم أعداؤنا يحصدون؟!

ممكن تقولي لي -حضرتكِ-: المدارس كم من هذه الأهداف تحقِّق؟

بل هل هي تحقِّق هذه الأهداف أم تُدمِّرها -إلَّا مَنْ رحم ربِّي من معلِّمٍ هنا أو معلِّمةٍ هناك؟

وكتطبيقٍ عمليٍّ: إذا ذهبتِ لتسجِّلي ابنك أو ابنتك في مدرسةٍ

فأرجو أن تأخذي معك قائمة الـ(21) مُقوِّمًا من مقوِّمات التربية التي ذكرناها،

وتسألي المسؤولين في المدرسة:

ممكن تقولوا لي كم من هذه الأهداف تحقِّقون؟

وما البرامج والأساليب التي تستخدمونها لتحقِّقوها؟

مِن سنواتٍ اكتُشفت حالةٌ لطبيبين في أحد المستشفيات الحكوميَّة الكبرى في بلدٍ عربيٍّ،

يأتي مريض السرطان فُيصرَف له دواءٌ،

لكنْ -وبالتنسيق مع بعض الممرِّضين في المستشفى- لا يُعطي الطبيبان الدواء للمريض

بل يُباع في السوق السوداء،

وأمَّا المريض فيوضع له حقنٌ وريديَّة (normal saline) يعني ماءٌ وملحٌ.

مؤلمٌ، أليس كذلك؟

ما يحصل لعامَّة أبناء المسلمين هو الشيء نفسه؛

هُمْ بحاجةٍ لعلاج إنسانيَّتهم مِن الجهل والهوى،

لكنَّ الذي يُعطى في كثيرٍ من المناهج التعليميَّة هو (normal saline)،

بل وفي كثيرٍ من الأحيان سمومٌ،

والأَبَوان يعتبِران أنَّهما أدَّيا ما عليهما بإرسال الأولاد إلى هذه المدارس.

أخطرُ شيءٍ لا أن تتُرك المريض دون علاجٍ،

بل أن تُدخِل لجسمه (normal saline) أو سمومًا،

وأنت تُوهمُه -وأهلَهُ- أنَّكَ تقِّدم له علاجًا.

قد تقولين: لكنْ كلامك عن دوري في التربية غير واقعيٍّ؛...

فأنتَ كأنَّك تريد من كلِّ أمٍّ أن تكون عالمةً في كلِّ هذه المجالات.

فأقول لكِ: المطلوب منكِ -يا كريمة-

أن تبني الأساس، وتضعي قدَمَيْ وَلَدكِ على الطريق الصحيح،

وتولِّدي لديه الحافزيَّة للتعلُّم والعمل بما يتعلَّم،

ثمَّ يكون دوركِ بعد هذا أن تُعينيه وتُشجِّعيه،

طرأت عليه شبهةٌ سمعها؛ تعالَ يا بنيَّ نبحث عن الجواب،

وتتعاوني معه في التعُّرف على المصادر والمراجع الموثوقة والأشخاص الذين يسمع لهم.

عانت ابنتكِ من مشكلةٍ نفسيَّةٍ؛ تعالي نستشير مختصَّةً...

أبناؤكِ هم في صُلبِ مشروعكِ.

قد تقولين: أراكَ وضعتَ حِمل التربية عليَّ، وماذا عن الأب؟!

بدايةً ليست حِملًا بل شرفًا؛

التربية، التزكية، بناء الإنسان، هذه وظيفة الأنبياء -عليهم السلام،

وشَرَف العامل على قَدْر شرف العمل.

وبما أنَّ عِبء النفقة يقع على الرجل،

مع ما يتطلَّبُه ذلك من إنفاق ساعاتٍ في العمل خارج البيت عادةً،

فبطبيعة الحال سيكون الوقت الذي تُمضينه مع أبنائك أطول بكثيٍر،

وستكون فرصتك في التربية أكبر.

ومع ذلك فعلينا أن نُذكِّر بأنَّ التربية مسؤوليَّةٌ مُشتَرَكةٌ بين الأب والأمِّ،

فمسؤوليَّةٌ بهذا الحجم تحتاج تعاونَكُما.

في التعليق على حلقة (أنا مش شغّالة البيت) اعترض بعض الرجال قائلين:

يعني تُريدُنا أنْ نكِدَّ ونتعب في العمل، ثمَّ المرأة تجلس مُدللَّةً في البيت لا تعمل شيئًا؟

بل وتقول لنا ساعدوها كمان في عمل البيت؟!

بل نقول أخي: نحن نُطالِبكَ بمُعاونتها في عمل البيت،

والتقليل مِن المتطلَّبات لتفُّرغها للمهمَّة الأعظم: بناء الإنسان،

وعليك أن تُعينها على هذه المهمَّة أيضًا،

لا أن تُقصِّر في واجبك في التربية تحت عناوين:

أنا أعمل لأجلكم، لتحصيل قُوتِكم، تكاليف الحياة عاليةٌ، أيَّامُنا صعبةٌ…،

وحتَّى الوقت الذي تُمضيه في البيت ليس وقتًا نوعيًّا تكون فيه متفرِّغ الذهنِ لأبنائك،

بل تنشغل عنهم بالموبايل والاتصالات وغيرها.

مِن لوازم القوامة -التي تكلَّمنا عنها-

أن يكون الأب قدوةَ البيت في التوازن، وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه،

وبالتالي نُحمِّلهُ المسؤوليَّة الأُولى عن تحقيق ذلك،

وقول النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في من لم يُحِط رعيَّته بنُصحِه:

«لم يجد رائحة الجنَّة» [رواه البخاري] موجِّهٌ لك أنتَ أيضًا أيُّها الرَّجُل،

وهناك أدوارٌ في تربية الأبناء لا يصلح لها إلَّا أنت

﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [النساء: 34]،

ومِن الُمرهِق جدًّا للمرأة والظلم لها مُطالبتُها بها،

فعليكَ أنتَ قيادة مشروع التربية وتذليل عقباته.

مشوار تربية الأبناء بدايته الحقيقيَّة هي من اختيار الزوجة واختيار الزوج

الذي يشارككِ في تحقيق الهدف الأعظم -كما ذكرنا.

لكن نقول لكِ أنتِ -يا كريمة-:

افترِضي أنَّ الأب لم يقم بدوره في التربية، طالبتِهِ بذلك وذكَّرته بالله، لكنَّه لا يتجاوب،

هل ستتركين أولادكِ؟

إذا الأب لم يأخذ الأولاد إلى مطاعيم شلل الأطفال والحصبة والجدريِّ وغيرها،

هل ستقولين: هو قصَّر، فلن أتحمَّل الحمل وحدي؟

أم ستدفعكِ رحمتكِ إلى أخذهم؟!

أليست نَفْسُ طفلك وروحه أَوْلى؟

أقبِل على النَّفْسِ واستكمل فضائلها فأنتَ بالروح لا بالجسم إنسانُ

لن تكون مهمَّةً سهلةً، لكنَّكِ تبرِّئين ذمَّتكِ أمام الله،

ولعلَّكِ تستعينين بمحاضن تربويَّةٍ كالمراكز والدورات النافعة والصحبة الصالحة

لتساعد في سدِّ الفجوة التي أَحْدَثَها الأب المقصِّر، وتُعينك على المهمَّة.

قد تقولين: لكن بصراحةٍ، أنا نَفْسي فاقدةٌ لكثيرٍ من معاني التربية ومقوِّماتها التي ذكرتَها

فكيف أُنشئ عليها أبنائي، وفاقدُ الشيء لا يُعطيه؟

صحيحٌ، نحن نحتاج أن نتربَّى على هذه المقوِّمات أوَّلًا، ثمَّ نربِّي عليها أولادنا،

وهذا مشوارُ حياةٍ يحتاج تعلُّمًا مستمرًّا وجهدًا ضخمًا، واستعانةً بالله.

عامَّةُ ما نبثُّه في المقالات والسلاسل

هو محاولةٌ لبناء المقوِّمات التربويَّة المذكورة في أنفسنا،

سواءً في (رحلة اليقين)، أم في (سلسلة المرأة)،

أم في مسابقات الاستدلال بالقرآن، أم في غيرها،

بالإضافة إلى سلاسل وكتبٍ سنُحيل عليها لمربِّين فضلاء تسدُّ الثغرة وتعطي خارطة الطريق.

ما نحاول إيصاله ما هو إلا (ألف - باء) الحياة

الذي كان يجب أن نتعلَّمه بدءًا من سنواتنا الأولى،

فالحلُّ يبدأ من تعظيم أهميَّة بناء الإنسان.

نحن الآن نخوض معركة استعادة السَّويَّة النفسيَّة،

تحرير الروح والنفس والفطرة، وإعادة إحياء الهدف،

لكنْ، الجميل في الأمر في المقابل هو أنَّكِ ستكتشفين وأنتِ تربِّين ابنكِ أنَّكِ تربِّين نفسَكِ،

نفسكِ بين جنبيكِ لا ترينها لكن ستَرَيْن عيوبها وحِيلها وجمال نتائج تربيتها،

ترين ذلك كلَّه في ابنك وابنتك.

وكأنَّها مِن حكمة الخلق وسُنَّة الحياة أنَّنا في مشوار التربية نكتشف أنفسنا،

نكتشف جمال النفس البشرية التي وَهَبنا الله إيَّاها،

وجمالَ زرع البذور فيها وسقيها بماء الوحي، وحصاد النتائج،

وجمال تحريرها من الاحتلال.

وبإمكانك أن تري الإحساس بهذا الجمال في التعليقات على الحلقات

من إخوة وأخوات ذاقوا لذَّة اكتشاف الشريعة واكتشاف نفوسهم -بفضل الله.

قد تقولين: لكنْ، ألا ينبغي أن تكون مسألة التربية أبسط من ذلك؟

أليس «كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة؟» [البخاري ومسلم]

هل الأجيال المسلِمة الأُولى احتاجت كلَّ هذا التعقيد؟

فنقول -يا كريمة-:

مِن أخطر ما حدث للمسلمين حين انسحب الاحتلال العسكريُّ من بلادهم

أنَّهم ظنُّوا أنَّهم مُستقِلُّون، لأنَّهم ما عادوا يَرَون جنود العدوِّ يتجوَّلون في الشوارع،

وبالتالي فلا يُدرِكون الاحتلال النفسيَّ والفكريَّ والروحيَّ والقِيَميَّ الذي يعيشونه،

فلا يَسْعَون للتحرُّر،

كما عبَّر أحدهم بشكلٍ بليغٍ:

وأقولُ كلُّ بلادنا محتلَّةٌ لا فرق إنْ رحل العِدا أو رانوا

ماذا نُفيدُ إذا استقلَّت أرضنا واحتُلَّتِ الأرواح والأبدانْ؟!

ستعود أوطاني إلى أوطانها إنْ عاد إنسانًا بها الإنسانُ

كانت أجيال المسلمين الأولى على الفطرة والسَّوية النفسيَّة،

عاشت بصدقٍ لتحقيق العبوديَّة الشاملة، فكان هذا الهدف محرِّكًا لأفعالها،

بحيث كان الأصل أن تخرج أفعالها على السَّليقَة دون تكلُّفٍ بالاتِّجاه الصحيح،

نُفُوسٌ معتزَّةٌ بالوحي، تثِق به ثقةً مُطلَقَةً،

وتنفِر من الجاهليَّة الماضية، والجاهليَّات المُحيطة بها،

وتحتقِرها وتسدُّ منافذها إلى القلوب،

وتُعيد النظر في كلِّ مَوْرُوثاتِها، وتُحاكمها للمعايير الربَّانيَّة.

تُعاِودها نزغاتٌ من الجاهليَّة بين الحين والآخر، لكنَّها تدرك أنَّها جاهليَّةٌ،

فًتجاهِدها وتتخلَّص منها،

تقع في معاصٍ لكنْ تُدرِك أنَّها معاصٍ.

بينما مولودُ اليوم يُولد على الفطرة،

فما تلبثُ منظومة الاحتلال الناعم أن تَطْمِسه وتُشرِّقَه وتُغرِّبَه نفسيًّا وفكريًّا وقِيميًّا،

وتُغرقه في سيلٍ متتابعٍ من الفتن والشبهات، وتلبِّس الحقَّ له بالباطل.

ومغناطيس العبوديَّة لله -والذي يجمع الشتات- غير موجودٍ،

فتبدو العمليَّة صعبةً؛

لأنَّنا نجمعُ شتات النَّفسِ المُتفلِّت الذي يَتَجاذبُه الدُّعاة على أبواب جهنَّم.

كان القرآن مفهومًا يُحدِث أثره البليغ في النفوس،

والآن يُشكِل فهمه على عامَّة العرب.

دوركِ -يا كريمة- أن تنفُضي هذا الرُّكام عن فطرة أبنائك،

وتَنْصِبي أمام أعينهم الهدف الذي يجمع شَتَاتهم، وتُقرِّبي إليهم الوحي.

قد تقولين: بعدما ذكرتَهُ، فإنِّي أخاف على مستقبل أبنائي،

بل وقد أتردَّدُ في الإنجاب مِن أصله.

فنقول لكِ: من قَدَر الله لهذه الأمَّة أن تكون هي الغالِبة في النهاية؛

فتحُ روما المبشَّر به، دخول الإسلام كلَّ بيتٍ،

هذا كلُّه سيكون على يد ذريَّةٍ من أبناء المسلمين،

لن ينقرِض المسلمون ويأتي أناسٌ من كوكبٍ آخر لينصروا الدين،

بُشريات نبيِّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن مقاصدها سَكْبُ هذه الطمأنينة في قلوبنا،

وأن نعلم أنَّنا نُقارِع في جولتنا، ونسلِّم الراية لأبنائنا بحسن تربيتهم

ليستكمِلوا مشوار النصر ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 28].

أخطر ما يحصل في تربية الأبناء -أيَّتها الكريمة-

والسبب الرئيس في ضياعهم وتحوُّلهم إلى مصدر شقاء للوالدين

هو نسيان الوالدين لهذه المعاني،

نسيان أنَّ الأبناء وتربيتَهم

يجب أن تكون من مشروع تحقيق الغاية العظمى: العبـوديَّـة لله.

يتزوَّج الشابُّ والفتاة، يُنجِبان لأنَّ الناس يُنجِبون لا أكثر،

وأحيانًا للاستمتاع بغريزة الأبوَّة أو الأمومة والاستئناس بصوت الأطفال في البيت،

ثمَّ ماذا؟ -لا شيء!

أنتَ تبحث عمَّا تهواه نفسُك وتستمتع به أكثر من أداء واجبك الأسريِّ،

وأنتِ تبحثين عن تحقيق ذاتكِ ورسم قصَّةِ نجاحك بعيدًا عن الأولاد.

هذا النوع من الآباء والأمهات سيجدُ نفسه يصطدِم بأولاده،

سَيَراهُم عقبةً في طريق طموحاته أو هواياته؛

لأنَّ أولاده هؤلاء ليسوا جزءًا من طموحاته،

سينفعل ويتأفَّف عندما يأخذون من وقته

لأنَّهم يُعيقونه عن تحقيق مشاريعه التي ليسوا هُمْ جزءًا منها،

وهذا الانفعال والتوتُّر يُضاعف الفشل في التربية.

الأبناء الضائعون بين أبوين لا يجدان مُتعةً في تربيتهم، سيبدأون بعمل المشاكل،

وستتوتَّر علاقتهم بِكُما أيُّها الأبوان،

بل سُيصبِحان مصدر توتُّر العلاقات بينكما كزوجين،

فكلٌّ منكُما يتَّهِم الآخر أنَّه السبب، وكلٌّ منكما يُلقي بحِمل الأولاد الثقيل على الآخر،

وأولادكما ينظرون، ويحفر في صدورهم كيف أنَّكما تتعاملان معهم كحِملٍ مزعجٍ

بدل أن تستمتِعا بالقرب منهم.

هنا ماذا يفعل كثيرٌ من الآباء والأمَّهات؟

يُقدِّمون أخطر رشوةٍ للأولاد؛

يوفِّرون للأولاد ما يَهْوونه حتَّى وإن كان ضارًّا بهم،

ولسان حال الأب أو الأمِّ:

ابني أنا مشغولٌ عنك، لا تأخذ من وقتي وذهني الكثير،

ماذا تريد؟ طعامًا؟ خُذ، حلويَّاتٍ -ولو ضارَّةً؟ خذ،

مصروفًا زائدًا -ولو كان مُفسِدًا؟ خذ،

موبايل؟ تابلت؟ آيباد؟ خذ، إكس بوكس؟ بلاي ستيشن؟ خذ،

خُذ ما تريد، وحِل عنِّي، لا تزعجني…

إبرٌ لتخدير نَفْس الولد

التي تصرخ من الجهل والفراغ الروحيِّ مطالِبةً بما يضرُّها ولا ينفعها.

علَّقت إحدى الأخوات على الحلقة الماضية قائلةً:

"زوجي طيبٌ وملتزمٌ،

لكنَّه لا يساهم في تربية أولاده إلَّا بتلبية رغباتهم وإرضائهم وملُاعبتِهم

حتَّى لا يحسُّوا بالنقص عن غيرهم من الأولاد كما يقول،

محاولاتي لوضع هدفٍ لهم وتلقينهم للمبادئ وحثِّهم على الصلاة،

وتجنُّب التفاهة وطلب العلم النافع

تجعلني شريرةَ البيت ومتسلِّطةً صارمةً،

في مقابل لينه وحنانه وإغراقه في تسهيل حياتهم وتبسيطها،

أُكابد ولا زلت، لكن هل أستمِرُّ في هذا الدور الصعب لوحدي؟

وإلى متى والطفل ينجذب للترفيه والتدليل وينفر من الإلزام والإجهاد الذي أمثِّله؟"

فنقول: نعم يا أختي الكريمة، استمرِّي، مع تنويع الأساليب،

ومزجِ ما تقومين به بالعطف وإظهار الاهتمام،

واطلبي من زوجكِ الكريم أن يحضر الحلقة أيضًا،

ولكِ -بإذن الله- على صبركِ وجهادكِ الأجر العظيم.

في مقابل الإهمال: هناك الاهتمام المدمِّر،

الخطورة أنَّنا إذا قلنا للمرأة: اهتمِّي بأبنائك، ولم نشرح كيف يجب أن يكون هذا الاهتمام،

فستظنُّ أن احتراق أعصابها لأجلهم، والتصاقها النفسيَّ بهم هو الاهتمام المطلوب،

وتظنُّ أنَّ تفريغهم للدراسة دون إشراكهم في واجبات البيت، وتسميع الدروس لهم،

والصراخ عليهم ليحلُّوا واجباتهم المدرسيَّة،

وتحمُّل مسؤوليَّاتهم عنهم حتَّى على مستوى ترتيب الفراش،

وقتل قدرتهم على الاستقلاليَّة هو الاهتمام، وأنَّها بذلك أدَّت ما عليها تجاههم، بل وزيادةً،

وهي في الحقيقة تفرِّغ شحنة الإحساس بالمسؤوليَّة في المكان الخطأ تمامًا،

فتؤذي نَفْسَها وتؤذيهم، وتحسب أنَّها تُحسِن صُنعًا.

عندما يكون هدفنا العبوديَّة لله،

فإنَّ هذا الاهتمام سيتَّخذ الأشكال الصحيحة في بناء الإنسان،

بغير ذلك سيكون الاهتمام مُؤذيًا.

- أريد لابني أن ينجح في حياته…

- ما مفهوم النجاح؟ ما معايير النجاح؟

إن أردتِ أن تساعدي أبنائكِ في دراستهم فحبِّبي إليهم العلم، علِّميهم كيف ينظِّمون جدولهم،

كيف يفكِّرون في مسائل من هذا النوع، كيف يحلِّلون ويربطون،

لا على طريقة: تعال أسمِّعلك، (وهي أشهر كلمةٍ في ثقافتنا التدريسيَّة)

ثمَّ بعد ذلك دعيهم يتحمَّلون المسؤوليَّة عن تقصيرهم في واجباتهم،

ولا تَدعِي ذلك يُفسد علاقتكِ بهم أو يشحن جوَّ البيت بالتوتُّر والصراخ.

من أهمِّ مبادئ تربية أولادك -أنتِ كأمٍّ- هو أن تتخلَّي عن رحمتكِ المؤذية، وتدخُّلاتك،

وتصبحي أكثر عقلانيَّةً وهدوءًا، واعتناءً بنفسكِ.

لا أن تكوني أمًّا مُحترِقةٍ تُعانين من التوتُّر والقلق تحت شعار: (الاهتمام بالأولاد)،

أعصابكِ مشدودةٌ على أُهبة الاستعداد، مُستنزَفَةٌ نفسيًّا، سريعة الانفجار معهم ومع الزوج،

فكَمْ من امرأةٍ بعد الإنجاب وبعد أن يكبر الأولاد قليلًا تصبح أمًّا فقط لا زوجةً،

تتوتَّر علاقتها مع زوجها، فيرى أبناؤها -الذين يُفتَرَض أنَّها احترقت مِن أجلهم-

يرون أمًّا فاشلةً في العلاقة الذاتيَّة مع نفسها ومع زوجها ومعهم، محترِقَةً متوتِّرةً،

فترسُم الأمُّ بذلك لأولادها وبناتها صورةً بائسةً للحياة ولمؤسَّسة الأسرة،

فينفِرون من الزواج الحلال، بل ومن الإسلام الذي شرعه، وحثَّ عليه وحرَّم غيره.

ويبحث الأولاد والبنات عن الإشباع العاطفيِّ في العلاقات غير الشرعيَّة؛

لأنَّهم لا يُريدون تكرار تجربة الزواج الفاشلة.

شعار: (كوني شمعةً تحترِق لتضيء الدرب للأولاد) شعارٌ خاطئٌ؛

دينُنا يعلِّمنا: «ولنفسِكَ عليك حقًّا... فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه» [البخاري].

إذا احترقتِ فلن تُنيري حياة الأولاد، بل ستسوِّدين برماد هذا الاحتراق حياتهم،

لا تحترقي بل أضيئي حياتهم بتوازنك واطمئنانك،

أعطي نفسكِ حقَّها وفق دوائر الأولويَّات -التي تكلَّمنا عنها،

انبسِطي مع نفسك ورفِّهي عنها، ثمَّ انبسطي مع زوجك وأعطِه حقَّه،

وستنصلح أمور أولادكِ بعد ذلك -بإذن الله.

لا تُعلِّقي نجاحكِ بنجاح أولادكِ فيما يفرِضُه المجتمع من معايير

مثل الدراسة المدرسيَّة والشهادة الجامعية والعلامات،


"بَس تربية؟" (2)

يُلحِدون أو يميلون للشُّذوذ، وآباؤهم مُستغرِبون،

مِن ماذا تستغربون؟!

هل حصَّنتُم أبناءكم وأحطتُموهم بنُصحِكُم كما أمر نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟!

أم أنَّ أعداءكم زرعوا في أبنائكم وأنتم غافلون، فها هُم أعداؤنا يحصدون؟!

ممكن تقولي لي -حضرتكِ-: المدارس كم من هذه الأهداف تحقِّق؟

بل هل هي تحقِّق هذه الأهداف أم تُدمِّرها -إلَّا مَنْ رحم ربِّي من معلِّمٍ هنا أو معلِّمةٍ هناك؟

وكتطبيقٍ عمليٍّ: إذا ذهبتِ لتسجِّلي ابنك أو ابنتك في مدرسةٍ

فأرجو أن تأخذي معك قائمة الـ(21) مُقوِّمًا من مقوِّمات التربية التي ذكرناها،

وتسألي المسؤولين في المدرسة:

ممكن تقولوا لي كم من هذه الأهداف تحقِّقون؟

وما البرامج والأساليب التي تستخدمونها لتحقِّقوها؟

مِن سنواتٍ اكتُشفت حالةٌ لطبيبين في أحد المستشفيات الحكوميَّة الكبرى في بلدٍ عربيٍّ،

يأتي مريض السرطان فُيصرَف له دواءٌ،

لكنْ -وبالتنسيق مع بعض الممرِّضين في المستشفى- لا يُعطي الطبيبان الدواء للمريض

بل يُباع في السوق السوداء،

وأمَّا المريض فيوضع له حقنٌ وريديَّة (normal saline) يعني ماءٌ وملحٌ.

مؤلمٌ، أليس كذلك؟

ما يحصل لعامَّة أبناء المسلمين هو الشيء نفسه؛

هُمْ بحاجةٍ لعلاج إنسانيَّتهم مِن الجهل والهوى،

لكنَّ الذي يُعطى في كثيرٍ من المناهج التعليميَّة هو (normal saline)،

بل وفي كثيرٍ من الأحيان سمومٌ،

والأَبَوان يعتبِران أنَّهما أدَّيا ما عليهما بإرسال الأولاد إلى هذه المدارس.

أخطرُ شيءٍ لا أن تتُرك المريض دون علاجٍ،

بل أن تُدخِل لجسمه (normal saline) أو سمومًا،

وأنت تُوهمُه -وأهلَهُ- أنَّكَ تقِّدم له علاجًا.

قد تقولين: لكنْ كلامك عن دوري في التربية غير واقعيٍّ؛...

فأنتَ كأنَّك تريد من كلِّ أمٍّ أن تكون عالمةً في كلِّ هذه المجالات.

فأقول لكِ: المطلوب منكِ -يا كريمة-

أن تبني الأساس، وتضعي قدَمَيْ وَلَدكِ على الطريق الصحيح،

وتولِّدي لديه الحافزيَّة للتعلُّم والعمل بما يتعلَّم،

ثمَّ يكون دوركِ بعد هذا أن تُعينيه وتُشجِّعيه،

طرأت عليه شبهةٌ سمعها؛ تعالَ يا بنيَّ نبحث عن الجواب،

وتتعاوني معه في التعُّرف على المصادر والمراجع الموثوقة والأشخاص الذين يسمع لهم.

عانت ابنتكِ من مشكلةٍ نفسيَّةٍ؛ تعالي نستشير مختصَّةً...

أبناؤكِ هم في صُلبِ مشروعكِ.

قد تقولين: أراكَ وضعتَ حِمل التربية عليَّ، وماذا عن الأب؟!

بدايةً ليست حِملًا بل شرفًا؛

التربية، التزكية، بناء الإنسان، هذه وظيفة الأنبياء -عليهم السلام،

وشَرَف العامل على قَدْر شرف العمل.

وبما أنَّ عِبء النفقة يقع على الرجل،

مع ما يتطلَّبُه ذلك من إنفاق ساعاتٍ في العمل خارج البيت عادةً،

فبطبيعة الحال سيكون الوقت الذي تُمضينه مع أبنائك أطول بكثيٍر،

وستكون فرصتك في التربية أكبر.

ومع ذلك فعلينا أن نُذكِّر بأنَّ التربية مسؤوليَّةٌ مُشتَرَكةٌ بين الأب والأمِّ،

فمسؤوليَّةٌ بهذا الحجم تحتاج تعاونَكُما.

في التعليق على حلقة (أنا مش شغّالة البيت) اعترض بعض الرجال قائلين:

يعني تُريدُنا أنْ نكِدَّ ونتعب في العمل، ثمَّ المرأة تجلس مُدللَّةً في البيت لا تعمل شيئًا؟

بل وتقول لنا ساعدوها كمان في عمل البيت؟!

بل نقول أخي: نحن نُطالِبكَ بمُعاونتها في عمل البيت،

والتقليل مِن المتطلَّبات لتفُّرغها للمهمَّة الأعظم: بناء الإنسان،

وعليك أن تُعينها على هذه المهمَّة أيضًا،

لا أن تُقصِّر في واجبك في التربية تحت عناوين:

أنا أعمل لأجلكم، لتحصيل قُوتِكم، تكاليف الحياة عاليةٌ، أيَّامُنا صعبةٌ…،

وحتَّى الوقت الذي تُمضيه في البيت ليس وقتًا نوعيًّا تكون فيه متفرِّغ الذهنِ لأبنائك،

بل تنشغل عنهم بالموبايل والاتصالات وغيرها.

مِن لوازم القوامة -التي تكلَّمنا عنها-

أن يكون الأب قدوةَ البيت في التوازن، وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه،

وبالتالي نُحمِّلهُ المسؤوليَّة الأُولى عن تحقيق ذلك،

وقول النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في من لم يُحِط رعيَّته بنُصحِه:

«لم يجد رائحة الجنَّة» [رواه البخاري] موجِّهٌ لك أنتَ أيضًا أيُّها الرَّجُل،

وهناك أدوارٌ في تربية الأبناء لا يصلح لها إلَّا أنت

﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [النساء: 34]،

ومِن الُمرهِق جدًّا للمرأة والظلم لها مُطالبتُها بها،

فعليكَ أنتَ قيادة مشروع التربية وتذليل عقباته.

مشوار تربية الأبناء بدايته الحقيقيَّة هي من اختيار الزوجة واختيار الزوج

الذي يشارككِ في تحقيق الهدف الأعظم -كما ذكرنا.

لكن نقول لكِ أنتِ -يا كريمة-:

افترِضي أنَّ الأب لم يقم بدوره في التربية، طالبتِهِ بذلك وذكَّرته بالله، لكنَّه لا يتجاوب،

هل ستتركين أولادكِ؟

إذا الأب لم يأخذ الأولاد إلى مطاعيم شلل الأطفال والحصبة والجدريِّ وغيرها،

هل ستقولين: هو قصَّر، فلن أتحمَّل الحمل وحدي؟

أم ستدفعكِ رحمتكِ إلى أخذهم؟!

أليست نَفْسُ طفلك وروحه أَوْلى؟

أقبِل على النَّفْسِ واستكمل فضائلها فأنتَ بالروح لا بالجسم إنسانُ

لن تكون مهمَّةً سهلةً، لكنَّكِ تبرِّئين ذمَّتكِ أمام الله،

ولعلَّكِ تستعينين بمحاضن تربويَّةٍ كالمراكز والدورات النافعة والصحبة الصالحة

لتساعد في سدِّ الفجوة التي أَحْدَثَها الأب المقصِّر، وتُعينك على المهمَّة.

قد تقولين: لكن بصراحةٍ، أنا نَفْسي فاقدةٌ لكثيرٍ من معاني التربية ومقوِّماتها التي ذكرتَها

فكيف أُنشئ عليها أبنائي، وفاقدُ الشيء لا يُعطيه؟

صحيحٌ، نحن نحتاج أن نتربَّى على هذه المقوِّمات أوَّلًا، ثمَّ نربِّي عليها أولادنا،

وهذا مشوارُ حياةٍ يحتاج تعلُّمًا مستمرًّا وجهدًا ضخمًا، واستعانةً بالله.

عامَّةُ ما نبثُّه في المقالات والسلاسل

هو محاولةٌ لبناء المقوِّمات التربويَّة المذكورة في أنفسنا،

سواءً في (رحلة اليقين)، أم في (سلسلة المرأة)،

أم في مسابقات الاستدلال بالقرآن، أم في غيرها،

بالإضافة إلى سلاسل وكتبٍ سنُحيل عليها لمربِّين فضلاء تسدُّ الثغرة وتعطي خارطة الطريق.

ما نحاول إيصاله ما هو إلا (ألف - باء) الحياة

الذي كان يجب أن نتعلَّمه بدءًا من سنواتنا الأولى،

فالحلُّ يبدأ من تعظيم أهميَّة بناء الإنسان.

نحن الآن نخوض معركة استعادة السَّويَّة النفسيَّة،

تحرير الروح والنفس والفطرة، وإعادة إحياء الهدف،

لكنْ، الجميل في الأمر في المقابل هو أنَّكِ ستكتشفين وأنتِ تربِّين ابنكِ أنَّكِ تربِّين نفسَكِ،

نفسكِ بين جنبيكِ لا ترينها لكن ستَرَيْن عيوبها وحِيلها وجمال نتائج تربيتها،

ترين ذلك كلَّه في ابنك وابنتك.

وكأنَّها مِن حكمة الخلق وسُنَّة الحياة أنَّنا في مشوار التربية نكتشف أنفسنا،

نكتشف جمال النفس البشرية التي وَهَبنا الله إيَّاها،

وجمالَ زرع البذور فيها وسقيها بماء الوحي، وحصاد النتائج،

وجمال تحريرها من الاحتلال.

وبإمكانك أن تري الإحساس بهذا الجمال في التعليقات على الحلقات

من إخوة وأخوات ذاقوا لذَّة اكتشاف الشريعة واكتشاف نفوسهم -بفضل الله.

قد تقولين: لكنْ، ألا ينبغي أن تكون مسألة التربية أبسط من ذلك؟

أليس «كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة؟» [البخاري ومسلم]

هل الأجيال المسلِمة الأُولى احتاجت كلَّ هذا التعقيد؟

فنقول -يا كريمة-:

مِن أخطر ما حدث للمسلمين حين انسحب الاحتلال العسكريُّ من بلادهم

أنَّهم ظنُّوا أنَّهم مُستقِلُّون، لأنَّهم ما عادوا يَرَون جنود العدوِّ يتجوَّلون في الشوارع،

وبالتالي فلا يُدرِكون الاحتلال النفسيَّ والفكريَّ والروحيَّ والقِيَميَّ الذي يعيشونه،

فلا يَسْعَون للتحرُّر،

كما عبَّر أحدهم بشكلٍ بليغٍ:

وأقولُ كلُّ بلادنا محتلَّةٌ لا فرق إنْ رحل العِدا أو رانوا

ماذا نُفيدُ إذا استقلَّت أرضنا واحتُلَّتِ الأرواح والأبدانْ؟!

ستعود أوطاني إلى أوطانها إنْ عاد إنسانًا بها الإنسانُ

كانت أجيال المسلمين الأولى على الفطرة والسَّوية النفسيَّة،

عاشت بصدقٍ لتحقيق العبوديَّة الشاملة، فكان هذا الهدف محرِّكًا لأفعالها،

بحيث كان الأصل أن تخرج أفعالها على السَّليقَة دون تكلُّفٍ بالاتِّجاه الصحيح،

نُفُوسٌ معتزَّةٌ بالوحي، تثِق به ثقةً مُطلَقَةً،

وتنفِر من الجاهليَّة الماضية، والجاهليَّات المُحيطة بها،

وتحتقِرها وتسدُّ منافذها إلى القلوب،

وتُعيد النظر في كلِّ مَوْرُوثاتِها، وتُحاكمها للمعايير الربَّانيَّة.

تُعاِودها نزغاتٌ من الجاهليَّة بين الحين والآخر، لكنَّها تدرك أنَّها جاهليَّةٌ،

فًتجاهِدها وتتخلَّص منها،

تقع في معاصٍ لكنْ تُدرِك أنَّها معاصٍ.

بينما مولودُ اليوم يُولد على الفطرة،

فما تلبثُ منظومة الاحتلال الناعم أن تَطْمِسه وتُشرِّقَه وتُغرِّبَه نفسيًّا وفكريًّا وقِيميًّا،

وتُغرقه في سيلٍ متتابعٍ من الفتن والشبهات، وتلبِّس الحقَّ له بالباطل.

ومغناطيس العبوديَّة لله -والذي يجمع الشتات- غير موجودٍ،

فتبدو العمليَّة صعبةً؛

لأنَّنا نجمعُ شتات النَّفسِ المُتفلِّت الذي يَتَجاذبُه الدُّعاة على أبواب جهنَّم.

كان القرآن مفهومًا يُحدِث أثره البليغ في النفوس،

والآن يُشكِل فهمه على عامَّة العرب.

دوركِ -يا كريمة- أن تنفُضي هذا الرُّكام عن فطرة أبنائك،

وتَنْصِبي أمام أعينهم الهدف الذي يجمع شَتَاتهم، وتُقرِّبي إليهم الوحي.

قد تقولين: بعدما ذكرتَهُ، فإنِّي أخاف على مستقبل أبنائي،

بل وقد أتردَّدُ في الإنجاب مِن أصله.

فنقول لكِ: من قَدَر الله لهذه الأمَّة أن تكون هي الغالِبة في النهاية؛

فتحُ روما المبشَّر به، دخول الإسلام كلَّ بيتٍ،

هذا كلُّه سيكون على يد ذريَّةٍ من أبناء المسلمين،

لن ينقرِض المسلمون ويأتي أناسٌ من كوكبٍ آخر لينصروا الدين،

بُشريات نبيِّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن مقاصدها سَكْبُ هذه الطمأنينة في قلوبنا،

وأن نعلم أنَّنا نُقارِع في جولتنا، ونسلِّم الراية لأبنائنا بحسن تربيتهم

ليستكمِلوا مشوار النصر ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 28].

أخطر ما يحصل في تربية الأبناء -أيَّتها الكريمة-

والسبب الرئيس في ضياعهم وتحوُّلهم إلى مصدر شقاء للوالدين

هو نسيان الوالدين لهذه المعاني،

نسيان أنَّ الأبناء وتربيتَهم

يجب أن تكون من مشروع تحقيق الغاية العظمى: العبـوديَّـة لله.

يتزوَّج الشابُّ والفتاة، يُنجِبان لأنَّ الناس يُنجِبون لا أكثر،

وأحيانًا للاستمتاع بغريزة الأبوَّة أو الأمومة والاستئناس بصوت الأطفال في البيت،

ثمَّ ماذا؟ -لا شيء!

أنتَ تبحث عمَّا تهواه نفسُك وتستمتع به أكثر من أداء واجبك الأسريِّ،

وأنتِ تبحثين عن تحقيق ذاتكِ ورسم قصَّةِ نجاحك بعيدًا عن الأولاد.

هذا النوع من الآباء والأمهات سيجدُ نفسه يصطدِم بأولاده،

سَيَراهُم عقبةً في طريق طموحاته أو هواياته؛

لأنَّ أولاده هؤلاء ليسوا جزءًا من طموحاته،

سينفعل ويتأفَّف عندما يأخذون من وقته

لأنَّهم يُعيقونه عن تحقيق مشاريعه التي ليسوا هُمْ جزءًا منها،

وهذا الانفعال والتوتُّر يُضاعف الفشل في التربية.

الأبناء الضائعون بين أبوين لا يجدان مُتعةً في تربيتهم، سيبدأون بعمل المشاكل،

وستتوتَّر علاقتهم بِكُما أيُّها الأبوان،

بل سُيصبِحان مصدر توتُّر العلاقات بينكما كزوجين،

فكلٌّ منكُما يتَّهِم الآخر أنَّه السبب، وكلٌّ منكما يُلقي بحِمل الأولاد الثقيل على الآخر،

وأولادكما ينظرون، ويحفر في صدورهم كيف أنَّكما تتعاملان معهم كحِملٍ مزعجٍ

بدل أن تستمتِعا بالقرب منهم.

هنا ماذا يفعل كثيرٌ من الآباء والأمَّهات؟

يُقدِّمون أخطر رشوةٍ للأولاد؛

يوفِّرون للأولاد ما يَهْوونه حتَّى وإن كان ضارًّا بهم،

ولسان حال الأب أو الأمِّ:

ابني أنا مشغولٌ عنك، لا تأخذ من وقتي وذهني الكثير،

ماذا تريد؟ طعامًا؟ خُذ، حلويَّاتٍ -ولو ضارَّةً؟ خذ،

مصروفًا زائدًا -ولو كان مُفسِدًا؟ خذ،

موبايل؟ تابلت؟ آيباد؟ خذ، إكس بوكس؟ بلاي ستيشن؟ خذ،

خُذ ما تريد، وحِل عنِّي، لا تزعجني…

إبرٌ لتخدير نَفْس الولد

التي تصرخ من الجهل والفراغ الروحيِّ مطالِبةً بما يضرُّها ولا ينفعها.

علَّقت إحدى الأخوات على الحلقة الماضية قائلةً:

"زوجي طيبٌ وملتزمٌ،

لكنَّه لا يساهم في تربية أولاده إلَّا بتلبية رغباتهم وإرضائهم وملُاعبتِهم

حتَّى لا يحسُّوا بالنقص عن غيرهم من الأولاد كما يقول،

محاولاتي لوضع هدفٍ لهم وتلقينهم للمبادئ وحثِّهم على الصلاة،

وتجنُّب التفاهة وطلب العلم النافع

تجعلني شريرةَ البيت ومتسلِّطةً صارمةً،

في مقابل لينه وحنانه وإغراقه في تسهيل حياتهم وتبسيطها،

أُكابد ولا زلت، لكن هل أستمِرُّ في هذا الدور الصعب لوحدي؟

وإلى متى والطفل ينجذب للترفيه والتدليل وينفر من الإلزام والإجهاد الذي أمثِّله؟"

فنقول: نعم يا أختي الكريمة، استمرِّي، مع تنويع الأساليب،

ومزجِ ما تقومين به بالعطف وإظهار الاهتمام،

واطلبي من زوجكِ الكريم أن يحضر الحلقة أيضًا،

ولكِ -بإذن الله- على صبركِ وجهادكِ الأجر العظيم.

في مقابل الإهمال: هناك الاهتمام المدمِّر،

الخطورة أنَّنا إذا قلنا للمرأة: اهتمِّي بأبنائك، ولم نشرح كيف يجب أن يكون هذا الاهتمام،

فستظنُّ أن احتراق أعصابها لأجلهم، والتصاقها النفسيَّ بهم هو الاهتمام المطلوب،

وتظنُّ أنَّ تفريغهم للدراسة دون إشراكهم في واجبات البيت، وتسميع الدروس لهم،

والصراخ عليهم ليحلُّوا واجباتهم المدرسيَّة،

وتحمُّل مسؤوليَّاتهم عنهم حتَّى على مستوى ترتيب الفراش،

وقتل قدرتهم على الاستقلاليَّة هو الاهتمام، وأنَّها بذلك أدَّت ما عليها تجاههم، بل وزيادةً،

وهي في الحقيقة تفرِّغ شحنة الإحساس بالمسؤوليَّة في المكان الخطأ تمامًا،

فتؤذي نَفْسَها وتؤذيهم، وتحسب أنَّها تُحسِن صُنعًا.

عندما يكون هدفنا العبوديَّة لله،

فإنَّ هذا الاهتمام سيتَّخذ الأشكال الصحيحة في بناء الإنسان،

بغير ذلك سيكون الاهتمام مُؤذيًا.

- أريد لابني أن ينجح في حياته…

- ما مفهوم النجاح؟ ما معايير النجاح؟

إن أردتِ أن تساعدي أبنائكِ في دراستهم فحبِّبي إليهم العلم، علِّميهم كيف ينظِّمون جدولهم،

كيف يفكِّرون في مسائل من هذا النوع، كيف يحلِّلون ويربطون،

لا على طريقة: تعال أسمِّعلك، (وهي أشهر كلمةٍ في ثقافتنا التدريسيَّة)

ثمَّ بعد ذلك دعيهم يتحمَّلون المسؤوليَّة عن تقصيرهم في واجباتهم،

ولا تَدعِي ذلك يُفسد علاقتكِ بهم أو يشحن جوَّ البيت بالتوتُّر والصراخ.

من أهمِّ مبادئ تربية أولادك -أنتِ كأمٍّ- هو أن تتخلَّي عن رحمتكِ المؤذية، وتدخُّلاتك،

وتصبحي أكثر عقلانيَّةً وهدوءًا، واعتناءً بنفسكِ.

لا أن تكوني أمًّا مُحترِقةٍ تُعانين من التوتُّر والقلق تحت شعار: (الاهتمام بالأولاد)،

أعصابكِ مشدودةٌ على أُهبة الاستعداد، مُستنزَفَةٌ نفسيًّا، سريعة الانفجار معهم ومع الزوج،

فكَمْ من امرأةٍ بعد الإنجاب وبعد أن يكبر الأولاد قليلًا تصبح أمًّا فقط لا زوجةً،

تتوتَّر علاقتها مع زوجها، فيرى أبناؤها -الذين يُفتَرَض أنَّها احترقت مِن أجلهم-

يرون أمًّا فاشلةً في العلاقة الذاتيَّة مع نفسها ومع زوجها ومعهم، محترِقَةً متوتِّرةً،

فترسُم الأمُّ بذلك لأولادها وبناتها صورةً بائسةً للحياة ولمؤسَّسة الأسرة،

فينفِرون من الزواج الحلال، بل ومن الإسلام الذي شرعه، وحثَّ عليه وحرَّم غيره.

ويبحث الأولاد والبنات عن الإشباع العاطفيِّ في العلاقات غير الشرعيَّة؛

لأنَّهم لا يُريدون تكرار تجربة الزواج الفاشلة.

شعار: (كوني شمعةً تحترِق لتضيء الدرب للأولاد) شعارٌ خاطئٌ؛

دينُنا يعلِّمنا: «ولنفسِكَ عليك حقًّا... فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه» [البخاري].

إذا احترقتِ فلن تُنيري حياة الأولاد، بل ستسوِّدين برماد هذا الاحتراق حياتهم،

لا تحترقي بل أضيئي حياتهم بتوازنك واطمئنانك،

أعطي نفسكِ حقَّها وفق دوائر الأولويَّات -التي تكلَّمنا عنها،

انبسِطي مع نفسك ورفِّهي عنها، ثمَّ انبسطي مع زوجك وأعطِه حقَّه،

وستنصلح أمور أولادكِ بعد ذلك -بإذن الله.

لا تُعلِّقي نجاحكِ بنجاح أولادكِ فيما يفرِضُه المجتمع من معايير

مثل الدراسة المدرسيَّة والشهادة الجامعية والعلامات،