شرح القصيدة اللامية 2 || لماذا تمسك ابن تيمية بعقيدته؟ وكيف تحدى خصومه؟؟
يَاسائلي َعن مَذهبي و َعقيدتي
رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قول
لا ينثني عنه ولا يتبدل
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، أمّا بعد:
لقد حرص كثيرٌ من اهل العلم على تصنيف متون مختصرة في العقيدة
فهناك: عقيدة البخاري
صفحة واحدة تقريبًا
وعقيدة الأصفهاني ، أيضا صفحة واحدة
وعقيدة الطّحاوي، والحائية لابن أبي داود ، أبيات
ومعنا اللاميّة لابن تيمية ، أبيات في صفحة واحدة
وكلّها متون مختصرة
وسبب تأليف العلماء رحمهم الله للمختصرات
ليسهل على طالب العلم حفظ هذه المنظومات
فالمتون المختصَرة تعتبر كالقاعدة لطالب العلم
وتكون كالمنطلق لبداية الطلب
ولذلك قال العلماء:
"من حفظ المتون حاز الفنون"،
"من حفظ المتون حاز الفنون"،
فأول ما يُقعِّد به طالب العلم
هو: حفظ المتون العلميّة
وإني أقترح على الإخوة المشتركين في هذه الدورة
أن يحفظوا هذه المنظومة النافعة، ويدعوا أولادهم لحفظها
ويجعلوا لهم مسابقة، ويخصّصوا الجوائز والحوافز على ذلك
حتى يتربّى الجيل على العلم النافع، والعقيدة الصحيحة
وسنشرع اليوم بإذن الله تعالى في شرح أبيات اللاميّة
وسوف يكون منهجنا -إن شاء الله- ذكر الأبيات المراد شرحها أولاً
ثم بيان المعنى الإجمالي لهذه الأببيات
وبعدها حلّ العبارات، وتعريف المصطلحات
ثم التعرض للمسائل العلمية والعقديّة التي تطرّق لها ابن تيمية
فنبيّنُ عقيدة أهل السنة والجماعة في المسألة المذكورة،
وذكرُ الأدلة عليها، وذكرُ أقوال علماء الأمة
مع الردّ والمناقشة لمن خالف
وأحيانًا نذكرُ ما نحتاج إليه، مما نراه مكمّلاً لهذه المسائل
ولعلنا أثناء العرض والشّرح، نذكر بعض المقدمات المهمّة
التي يحتاج إليها كلّ دارس لكتب التوحيد والعقيدة
فعمومُ الناس في حاجةٍ إلى معرفة القواعد
والتأصيلِ في المنهج
وخاصة في مسائل الاعتقاد
وإذا عرف المسلم قواعد في الربوبية
وقواعد في الألوهية
وقواعد في الأسماء والصفات
وقواعد في الغيبيّات
وعرف قواعد السلف الصّالح، في تعاملهم مع النصوص
أصبح مسلمًا على بصيرة
يقرأ فيفهم
ويسمع فيميّز
وتكون عقيدتُه راسخةً
قائمةً على القناعة والفهم، والبرهان والعلم
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
له قصبُ السبق في تأصيل تلك القواعد أو جمعِها وتبيينها
كلّ ذلك نذكره باختصار إن شاء الله
حتى نحافظ على هدف شيخ الإسلام ابن تيمية
من هذه المنظومة، بأن تكون ميسرةً ومختصرة
سهلةَ التداول والفهم والحفظ
ونبدأ الآن على بركة الله
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي
رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَلُ
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِهِ
لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّلُ
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي
رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَلُ
المعنى الإجمالي لهذا البيت
يا من سألني عن مذهبي الذي أذهبُ إليه
وعقيدتي التي أعتقدُ بها
رُزِقتَ الهدى إن كنتَ صادقًا في السؤال عن الهداية
في هذا البيت كأنّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يشير إلى سبب تأليف هذا النظم
وهو أنّه جاء جوابًا على سؤال مسترشد عن عقيدة أهل السنة والجماعة
فأجاب رحمه الله بما يذهب إليها ويعتقده
ولقد ألّفَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، عدداً من الرسائل
بسبب أنه كان يفد إليه بعض الطلاب من مناطق متعددة
فيطلبون منه أن يكتب لهم مختصراً
أو كتاباً يرجعون به إلى بلدهم
وذكروا منها العقيدة التدمريّة
فهي ضمن أجوبةٍ أجاب بها ابن تيمية أهلَ تدمر
عن التوحيد والصفات، والشرع والقدر
وكذلك العقيدة الواسطية
حين قدم على ابن تيمية قاضٍ من واسط
وشكا حال الناس في تلك البلاد، وفي دولة التتر
من غلبة الجهل والظلم
فسأله أن يكتب له عقيدةً، تكون عمدةً له ولأهل بيته
فكتبها ابن تيمية وهو قاعدٌ بعد العصر رحمه الله تعالى
قوله: "عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي"
المذهب: هو ما يعتقده الإنسان جزمًا أو ظنًا بدليل
والمراد: الرأي الذي أذهب إليه
وعَقيدَتِي: العقيدة في اللغة
من العقد والربط ، شيء موثّق يعني
وفي الاصطلاح: تطلق العقيدة على ما يجب الإيمان به من الأمور الدينية
قوله: "رُزِقَ الهُدى"
ما ألطف التعبير عن الهدى بالرّزق!
لأن الكثير يتصوّر بأنَّ الرزقَ محصورٌ فقط في المال
وهذا نوعٌ واحدٌ ضيِّقٌ من أنواع الرزق
بينما أنواع الرزق أكثر من أن تُحصر
الرّزق يشمل جميع جوانب حياة الإنسان، وما ينتفع به
فالعلم النافع رزقٌ
والصحة رزقٌ
والعافية رزقٌ
والزوجة المطيعة رزقٌ
والذرية الصالحة زرقٌ
وراحة البال رزقٌ
ومحبّة الناس رزقٌ
والإيمان والهدى رزقٌ
بل هو من أعظم الأرزاق
لأنه لا يأتي إلا بالخير والنفع
ويُسعد صاحبه في الدُّنيا والآخرة
فما معنى الهُدى؟
الهدى أيها الأحبة هو ضدّ الضلالة
يقول ابن تيمية: "لفظ الهدى إذا أطلق، يقصد به: العلمَ، والعملَ به"
أي العلم الذي بعث الله تعالى به رسوله ﷺ وليس أي علم
فمن أراد الهداية، اتّبع الكتاب والسّنة
وفهِم الكتاب والسّنة بفهم سلف الأمّة
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه،
أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة،
ثم قرأ هذه الآية: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"
والمعنى: أنَّ من اتبع الهدى واستقام على الحق
فإنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة
بل له الجنة والكرامة
ومن أعرض عن كتابه وسنة رسوله ﷺ
ولم يتبع الهدى، فإن له معيشة ضنكا في الدنيا
فيقع في قلبه قلقٌ وضيقٌ وحرجٌ
وله يوم القيامة العذاب الأليم في دار الجحيم!
نسأل الله تعالى السلامة
فعلى المسلم أن يطلب الهداية من الله
اقتداءً بالنبي ﷺ، الذي كان يدعو فيقول:
"اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدى والتُّقى، والعفافَ والغِنى"
فمن سأل الله الهداية
وبحث عنها بصدقٍ، وفّقه الله لها
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِهِ * لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّلُ
المعنى الإجمالي لهذا البيت:
اسمع يا طالب الهداية والرشد
كلام رجل مدقّقٍ، تحقَّق من قوله وكلامه
لا ينثني عنه: أي لا يرجع عن كلامه ورأيه
ولا يتبدّلُ: أي ولا يغيّر اعتقاده أبدًا
لماذا؟ لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة
في هذا البيت دعا ابن تيمية السائل إلى
السّماعِ لرأيه والأخذِ عنه
ووصف نفسه بأمرين:
بأنّه محقّق في قوله
وبأنّه ثابت على عقيدته
والسؤال:
ما الحامل على هذه التزكية؟
الجواب من ثلاثة أوجه
الأول: أنّ هذه التزكية ليست من باب العلو والعجب والاستكبار
لا.. بل من أجل حثّ المخاطب على قبول الحق
والإقبال على الحقّ، وهذا سائغ ومقبول
الوجه الثاني:
أنّ ابن تيمية ثابتٌ على رأيه
لثبوت أدلته عنده
فعقيدته ليست مستنبطة من عقله القاصر
وإنّما من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة
حتى قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية:
يقول :"أنا تحرّيت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة"
وقال أيضًا: "كلّ لفظ ذكرته، فأنا أذكر به: آية أو حديثًا أو إجماعًا سلفيًا"
وهذه هي مصادر العقيدة الإسلامية
الكتاب والسنة وقول السلف الصالح
والوجه الثالث
لعجز خصوم ابن تيمة عن الردّ عليه!
فهذا ابن تيمية -رحمه الله- وهو في مجلس المناظرة مع خصومه
فيما تضمنته العقيدة الواسطية، يقول:
"ما كتبتُ إلا عقيدة السلف الصالح
وقد أمهلت من خالفني في هذه العقيدة ثلاث سنين
ثلاث سنين
فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة، ما يخالف الذي ذكرته
فأنا راجع عن ذلك"
هذا تحدٍ عظيم وكبير من ابن تيمية!
فهذه الأمور التي ذكرناها، هي التي جعلت شيخ الإسلام ابن تيمية
يستمسك برأيه
ويثبت على عقيدته
ويَصبر على الابتلاء والمحن
ويتحمّل الظلم والسّجن
ولا يرضى أن يغيّر أو يبدّل
وينحرف عن مذهب السلف، ويستبدله بغيره من المذاهب الأخرى
بخلاف أهل الأهواء والبدع
فهم كل يوم يتبدّلون ويتلونون
عما كانوا عليه، ويتغيرون عن معتقدهم
الذي هم عليه
نسأل الله تعالى السلامة
نكتفي بهذا القدر ونكمل في الحلقة القادمة
بإذن الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
هذا اعتقاد الشافعي ومالك
وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل
فإن اتبعت سبيلهم فموفق
وإن ابتدعت فما عليك معوّل