×

We use cookies to help make LingQ better. By visiting the site, you agree to our cookie policy.


image

نصوص متنوعة - semestre4, NB401A-vI: Imad Mouaid : ذلك الذي لم ير البحر

NB401A-vI: Imad Mouaid : ذلك الذي لم ير البحر

كان اسمه دانييل، وكم ود أن يكون اسمه سندباد. لأنه كان قد قرأ مغامراته في كتاب ذي غلاف أحمر، يحمله دائما معه، في الصف وفي عنبر النوم. أظن أنه لم يقرأ غيره. لم يكن يتكلم عنه إلا في أحيان قليلة، حين يطلب منه ذلك. تلمع عيناه بقوة أكثر، و تظهر فجأة علامات الانتعاش على وجهه الحاد. كان فتى لا يتكلم كثيرا، ولا يشترك في أحاديث الآخرين، إلا إذا كان الحديث يدور عن البحر أو عن السفر. معظم الناس هم أناس أرضيون. ولدوا على الأرض، والأرض وأشياؤها هي التي تهمهم. حتى أن البحارة هم، غالبا، أناس من الأرض، يحبون البيوت و النساء، يتكلمون بالسياسة وعن السيارات. أما دانييل فقد كان يبدو كما لو أنه من جنس آخر. يمل من الأشياء الأرضية، المحلات والسيارات والموسيقى والأفلام وبشكل طبيعي من دروس المدرسة الثانوية. لم يكن يقول شيئا، حتى أنه لم يكن يتثاءب مظهرا ملله. لكنه كان يبقى في مكانه، جالسا على مقعد، أو على درجات الدرج، أمام الباحة محدقاً في الفراغ. كان تلميذا دون المتوسط، يحصل بصعوبة، في كل فصل، على ما يلزمه من علامات للنجاح. عندما يلفظ مدرس ما اسمه، ينهض ويسرد درسه، ثم يجلس فينتهي كل شيء. كان يبدو عليه، كما لو أنه ينام بعيون مفتوحة.

حتى حين كنا نتكلم عن البحر، فإنه لم يكن يهتم بذلك. كان ينصت للحظة، ويسأل سؤالين أو ثلاثة، ثم يوقن أن ما نتكلم عنه ليس، حقيقة، هو البحر، وإنما الاستحمام وصيد الأعماق والشواطئ وضربات الشمس. فيذهب ليعود إلى جلوسه على مقعده، أو على درجات الدرج، محدقا في الفراغ. ليس عن هذا البحر يريد أن يسمع. و إنما عن بحر آخر، لا نعرف مكانه.

كان ذلك قبل أن يختفي، قبل أن يغادر. لم يكن أحدا يتخيل بأنه سيغادر في يوم من الأيام، أريد أن أقول، أن يغادر دون عودة، كان فقيرا، يملك والده مزرعة صغيرة، على بعد بضع كيلومترات من المدينة، كان يرتدي صدارة رمادية خاصة بالطلبة الداخليين، فهو لا يستطيع العودة إلى منزله كل مساء، لأن عائلته كانت تقيم بعيدا. كان له ثلاثة إخوة أو أربعة أكبر منه، لا نعرفهم.

كان بلا أصدقاء، لايعرف أحدا، و لايعرفه أحد. ربما كان يفضل ذلك كي لا يكون له صلة بأحد. كان له وجه غريب حاد، بعينين سوداوين جميلتين لامباليتين.

لم يكن يقول شيئا لأحد. لكن بالتأكيد، كان قد حضر كل شيء لهذه اللحظة، حضّر كل شيء في رأسه، بتذكر كل الطرق والخرائط، و أسماء المدن التي سيجتازها. ربما حلم بأشياء كثيرة، يوما بعد يوم، وكل ليلة، كان يستلقي على سريره في العنبر، فيما الآخرون يمزحون ويدخنون سجائرهم خفية. فكر بالأنهار التي تنحدر بهدوء نحو مصباتها، بصرخات النوارس، بالريح، وبالعواصف التي تصفر فوق صواري السفن، وبصفارات المنارات.

غادر في بداية الشتاء، تقريبا في منتصف أيلول. عندما استيقظ الطلاب الداخليون، في العنبر الكبير الرمادي، كان قد اختفى. أدركوا ذلك مباشرة، منذ أن فتحوا عيونهم، لأن السرير لم يكن مستعملا. الأغطية مسحوبة بعناية، و كل شيء كان مرتبا. قالوا فقط:" عجبا.. غادر دانييل.." دون أن يكونوا مدهوشين، لأنهم كانوا يعرفون، و لو قليلا، بأن ذلك سيحدث. لكن أحدا لم يقل شيئأ آخر، لأننا لم نرد أن يدور الحديث في هذا الموضوع مرة أخرى.

حتى التلاميذ الأكثر ثرثرة في الصف المتوسط لم يقولوا شيئا. على كل حال، أيستطيعون أن يقولوا شيئا؟ لاأحد يعرف شيئا. لوقت طويل، كان يهمس في الباحة أو أثناء دروس اللغة الفرنسية، لكن ذلك لم يكن سوى عبارات مقتضبة، معانيها لم تكن معروفة إلا منا.


NB401A-vI: Imad Mouaid : ذلك الذي لم ير البحر

كان اسمه دانييل، وكم ود أن يكون اسمه سندباد. His name was Daniel, and he would like to be named Sinbad. لأنه كان قد قرأ مغامراته في كتاب ذي غلاف أحمر، يحمله دائما معه، في الصف وفي عنبر النوم. Because he had read his adventures in a red-covered book, he always carried it with him, in the classroom and in the dormitory. أظن أنه لم يقرأ غيره. I guess he did not read others. لم يكن يتكلم عنه إلا في أحيان قليلة، حين يطلب منه ذلك. He did not talk about him except on a few occasions, when asked. تلمع عيناه بقوة أكثر، و تظهر فجأة علامات الانتعاش على وجهه الحاد. His eyes glittered more powerfully, and his sharp face suddenly showed signs of recovery. كان فتى لا يتكلم كثيرا، ولا يشترك في أحاديث الآخرين، إلا إذا كان الحديث يدور عن البحر أو عن السفر. He was a boy who did not speak much, and did not participate in other people's conversations, unless the conversation was about the sea or about traveling. معظم الناس هم أناس أرضيون. Most people are earthly people. ولدوا على الأرض، والأرض وأشياؤها هي التي تهمهم. They are born on earth, and it is the earth and its things that matter to them. حتى أن البحارة هم، غالبا، أناس من الأرض، يحبون البيوت و النساء، يتكلمون بالسياسة وعن السيارات. Even the sailors are often people of the land, they like houses and women, they talk about politics and cars. أما دانييل فقد كان يبدو كما لو أنه من جنس آخر. As for Daniel, it was as if he was of another race. يمل من الأشياء الأرضية، المحلات والسيارات والموسيقى والأفلام وبشكل طبيعي من دروس المدرسة الثانوية. Bored of earthly things, shops, cars, music, movies, and naturally high school lessons. لم يكن يقول شيئا، حتى أنه لم يكن يتثاءب مظهرا ملله. He wasn't saying anything, he wasn't even yawning to show his boredom. لكنه كان يبقى في مكانه، جالسا على مقعد، أو على درجات الدرج، أمام الباحة محدقاً في الفراغ. But he would stay where he was, sitting on a bench, or on the steps of the stairs, in front of the yard staring into the emptiness. كان تلميذا دون المتوسط، يحصل بصعوبة، في كل فصل، على ما يلزمه من علامات للنجاح. He was a mediocre student who hardly got the marks he needed to succeed in every class. عندما يلفظ مدرس ما اسمه، ينهض ويسرد درسه، ثم يجلس فينتهي كل شيء. When a teacher utters his name, he gets up and recounts his lesson, then sits down and it is all over. كان يبدو عليه، كما لو أنه ينام بعيون مفتوحة. It seemed as if he was sleeping with eyes open.

حتى حين كنا نتكلم عن البحر، فإنه لم يكن يهتم بذلك. Even when we were talking about the sea, he didn't even care. كان ينصت للحظة، ويسأل سؤالين أو ثلاثة، ثم يوقن أن ما نتكلم عنه ليس، حقيقة، هو البحر، وإنما الاستحمام وصيد الأعماق والشواطئ وضربات الشمس. He listened for a moment, asked two or three questions, then he realized that what we were talking about was not, in fact, the sea, but rather bathing and fishing for the depths and beaches and sunstroke. فيذهب ليعود إلى جلوسه على مقعده، أو على درجات الدرج، محدقا في الفراغ. He goes back to his seat, or on the steps of the stairs, staring into the void. ليس عن هذا البحر يريد أن يسمع. Not about this sea wanted to hear. و إنما عن بحر آخر، لا نعرف مكانه. But for another sea, we do not know its location.

كان ذلك قبل أن يختفي، قبل أن يغادر. That was before he disappeared, before he left. لم يكن أحدا يتخيل بأنه سيغادر في يوم من الأيام، أريد أن أقول، أن يغادر دون عودة، كان فقيرا، يملك والده مزرعة صغيرة، على بعد بضع كيلومترات من المدينة، كان يرتدي صدارة رمادية خاصة بالطلبة الداخليين، فهو لا يستطيع العودة إلى منزله كل مساء، لأن عائلته كانت تقيم بعيدا. كان له ثلاثة إخوة أو أربعة أكبر منه، لا نعرفهم.

كان بلا أصدقاء، لايعرف أحدا، و لايعرفه أحد. He was without friends, knew no one, and no one knew him. ربما كان يفضل ذلك كي لا يكون له صلة بأحد. Perhaps he would have preferred it in order not to be related to anyone. كان له وجه غريب حاد، بعينين سوداوين جميلتين لامباليتين. He had a strange, sharp face, with beautiful, black, careless eyes.

لم يكن يقول شيئا لأحد. He wasn't saying anything to anyone. لكن بالتأكيد، كان قد حضر كل شيء لهذه اللحظة، حضّر كل شيء في رأسه، بتذكر كل الطرق والخرائط، و أسماء المدن التي سيجتازها. But surely, he had prepared everything for this moment, prepared everything in his head, remembering all the routes and maps, and the names of the cities he would cross. ربما حلم بأشياء كثيرة، يوما بعد يوم، وكل ليلة، كان يستلقي على سريره في العنبر، فيما الآخرون يمزحون ويدخنون سجائرهم خفية. Perhaps he dreamed of many things, day after day, and every night, he was lying on his bed in the dormitory, while the others were joking and smoking their cigarettes in secret. فكر بالأنهار التي تنحدر بهدوء نحو مصباتها، بصرخات النوارس، بالريح، وبالعواصف التي تصفر فوق صواري السفن، وبصفارات المنارات. Think of the rivers descending gently to their estuaries, the cries of gulls, the wind, the storms whistling over the masts of ships, and the whistles of lighthouses.

غادر في بداية الشتاء، تقريبا في منتصف أيلول. He left at the beginning of winter, roughly in the middle of September. عندما استيقظ الطلاب الداخليون، في العنبر الكبير الرمادي، كان قد اختفى. When the boarding students woke up, in the large gray dormitory, he had disappeared. أدركوا ذلك مباشرة، منذ أن فتحوا عيونهم، لأن السرير لم يكن مستعملا. They realized this right away, since they opened their eyes, because the bed was not in use. الأغطية مسحوبة بعناية، و كل شيء كان مرتبا. The covers were carefully pulled, and everything was in order. قالوا فقط:" عجبا.. غادر دانييل.." دون أن يكونوا مدهوشين، لأنهم كانوا يعرفون، و لو قليلا، بأن ذلك سيحدث. They just said, “Wow ... Daniel left ..” without being astonished, because they knew, if only a little, that this would happen. لكن أحدا لم يقل شيئأ آخر، لأننا لم نرد أن يدور الحديث في هذا الموضوع مرة أخرى. But no one said anything else, because we did not want the topic to be discussed again.

حتى التلاميذ الأكثر ثرثرة في الصف المتوسط لم يقولوا شيئا. Even the most talkative pupils in the middle class said nothing. على كل حال، أيستطيعون أن يقولوا شيئا؟ لاأحد يعرف شيئا. Anyway, can they say something? Nobody knows anything. لوقت طويل، كان يهمس في الباحة أو أثناء دروس اللغة الفرنسية، لكن ذلك لم يكن سوى عبارات مقتضبة، معانيها لم تكن معروفة إلا منا. For a long time, he was whispering in the courtyard or during French language lessons, but that was nothing but brief phrases, the meanings of which were known only to us.