(Part 1) أَكْرَم مُسَلَّم: بِنْتٌ مِنْ شاتيلا
الإهْداء: إلى لَيلَى شَهيد، لإسهامِها الرّيادي في تَحويلِ المَجْزَرَةِ
مِنْ حَدَثٍ مُفْجِعٍ إلى مَسْأَلةٍ ثَقافيّة.
وإلى بَيان نُوَيْهِض الحُوت،
إعْجاباً بِكِتابِها المُذْهِل "صَبْرا وَشاتيلا - أَيْلول 1982".
مَشهَدٌ اِفتِتاحيٌ: مَسرحٌ مُعْتِمٌ دونَ جُمهورٍ أو مُمَثِّلين. يُسمَعُ فَقَطْ صَوتٌ أُنْثَوي مُمَزَّق، مِنْ وَراءِ سِتارةٍ سَماويَّة:
"لا تَتَحرَّكيْ". قال المُصوِّرُ ذو المَلامِحِ الغَربيّة. قالَ ذَلِكَ بِلُكنةٍ غَريبة، لكنّها مَفْهومةٌ. كانَت ذُبابةٌ تَحُطُّ على جَبْهَتي المُتَعَرِّقةِ، تَماماً تَحْتَ غُرّتي المُتَلَبِّدةِ.
الذُّبابةُ ثَقيلةٌ جِدًّا. ذُبابُ الجُثَثِ ثقيلٌ جِدًّا. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
أَرَدْتُ أنْ أُشيحَ بِيَدي لأطْرُدَ الذُّبابةَ. لَكِنَّ إلْحاحُ المُصوِّرِ على ألّا أَتَحَرَّكَ كان أقْوَى مِن رَغْبتي. اِستَجَبْتُ لِطَلَبِ المُصوّرِ ولَمْ أَتَحَرَّكْ، فَبَقيَت الذُّبابةُ على جَبْهَتي، وظَهَرَتْ في الصُّورةِ.
ذُبابُ الجُثَثِ وَقِحٌ وبَليدٌ، له طَنينٌ قَويّ وحادّ وبَشِع، ويَحدُثُ أنْ يَظْهَرَ في صوَرِ المَجازِر.
لا أعرفُ إنْ كان المُصوّرُ شاهَدَ الذُّبابةَ عِبْرَ عَدَسَتِهِ وتَعَمَّدَ إبْقاءَها، لِلضَّرورةِ، فَطَلَبَ ألّا أتَحَرَّكَ حَتَّى لا تَطيرَ الذُّبابةُ، أَمْ أنّه لمْ يَرَها. لا أَعْرِفُ، ورُبّما لَنْ أَعْرِفَ أَبَدًا.
أَعْرِفُ أنّ ذُبابُ الجُثَثِ قَذِرٌ. يَجِبُ طَرْدُهُ بَعيدًا. فَهُوَ يَنْدَسُّ في فَتَحاتِ أُنُوفِ المَوْتَىْ، ويَضَعُ فيها بُيوضَهُ الكَثيرةَ. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
كُنتُ جالسةٌ على عَتَبَةِ البَيتِ، العَتَبَةُ عاليةٌ قليلًا، البابُ الخَشَبيُّ السَّميكُ مَفتوحٌ. جُثَّةُ أُمّي وجُثَثُ أّخَواتي وإخْوَتي وَرَائي في الفِناءِ. اُضْطُرَّ المُصوّرُ للرُّجوعِ إلى الخَلْفِ؛ إلى داخِلِ الفِناءِ المُقابِلِ لِفِناءِ بَيتِنا. أرادَ أَخْذَ مَسافةٍ كافيةٍ لِنَظْهَرَ جَميعًا في الصُّورة، فالعَتَبةُ مُلاصِقَةٌ للطَّريقِ، وَطُرُقُ المُخَيَّمِ ضَيِّقَةٌ جِدًّا.
يَصْعَبُ الْتِقاطُ صورةٍ جَماعيّةٍ في زُقاقِ مُخَيَّمِ لاجِئينَ حَدَثَتْ فيهِ مَجْزَرَةٌ. يَنْبَغيْ الرُّجوعُ ودُخولُ فِناءِ الجيرانِ مِن أَجْلِ ذلك. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
أَتَذَكَّرُهُ تَمامًا؛ مُصوّرُ حُروبٍ بِعَيْنٍ واحِدَةٍ. يُغَطِّيْ مَكانَ العَيْنِ المَفْقودَةِ بِلاصِقٍ طِبّيٍّ أَبْيَضَ بَيْضاويِّ الشَّكْلِ، يَبْدوْ اللاصِقُ خَشِنًا. اِلْتَقَطَ الصُّورةَ، تَعالَتْ بَعْدَها صَرَخاتٌ مُرْعِبَةٌ. اُكْتُشِفَتْ كَوْمَةٌ جَديدةٌ مِنَ الجُثَثِ. اِرْتَبَكَ، صارَ يَنظُرُ إليَّ وإلى اتِّجاهِ الصَّوتِ مُتَرَدِّدًا، وكأنَّهُ لَمْ يُرِدْ أنْ يَتْرُكَني، تَقَدَّمَ مِنّي وأَعْطاني الكاميرا.
صارَتْ مَعي كاميرا حَقيقيّةٌ، ولَيسَتْ كاميرا/ دُميَةٌ، لَكِنَّني فَقَدْتُ العائلةَ، عِندَما تَمْتَلِكُ كاميرا فَخْمةً دونَ عائلةٍ تَلْتَقِطُ صُوَرًا لَها تَشْعُرُ بِحَسْرةٍ أَعْمَقَ.
أَحْسَسْتُ وَكَأَنَّهُ أعْطانيْ عَيْنَهُ؛ عَيْنَا ثالثِةً لِلْبُكاءِ، أعْطانيْ عَيْنَهُ الوَحيدَةَ وَصارَ أَعْمَىْ، اِحْتَضَنْتُ الكاميرا وَبَكَيْتُ وَبَكَيْتُ، وَمَضَىْ هو يَتَحَسِّسُ الطَّريقَ وَيَتَعَثِّرُ بِالجُثَثِ، دونَ أنْ أَعْرِفَ حَتَّى اِسْمَهُ.
في أَوْقاتِ السِّلْمِ، يَنامُ المَيِّتُ وَحيدًا مُحاطًا بِأُناسٍ كَثيرينَ يَبْكُونَ، في المَجازِرِ يَنامُ مَيِّتونَ كَثيرون، يَقِفُ بَيْنَهُمْ حَيٌّ وَحيدٌ باكيًا، يَحْتاجُ إلى عَينٍ ثالثةٍ لِكَيْ يَبْكيَ على الجَميعِ. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
غَريبٌ أَمْرُ الإنْسانِ؛ هُناكَ مَنْ يُعْطيكَ عَيْنَهُ الوَحيدةَ، وَهُناكَ مَنْ يأْخُذُ أَرْواحَ عائلَتِكَ كُلِّها!
في الصُّورةِ تَظْهَرُ الجُثَثُ جَميعُها خَلْفي، لكن الكاميرا غَبيّةٌ، غَبيّة. كانَ أَجْمَلَ ما في أُمِّي رائِحَتُها، لَكِنَّها صارَتْ مُريعةً بَعْدَ تِلْكَ اللَيْلةِ. عِندَما تَموتُ الأُمُّ تَموتُ رائحَتُها، تُصْبِحُ فَطِسةً. هذا مُريعٌ، مُريعٌ، ولا تَرْصُدُهُ الكاميرا. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
كانتْ تِلْكَ أَوَّلَ صورَةٍ جَماعيّةٍ تُلْتَقَطُ لِلْعائِلةِ، على ما أَظُنُّ، وَآخَرَ صورةٍ، لا شَكَّ في ذَلِك.
صورةٌ مُلَوَّنةٌ.
اِحْتَفَظَتْ خالَتِيْ بِالصُّورةِ في صُنْدوقٍ في مَكانٍ عالٍ، لِأَنَّني حاوَلْتُ تَمْزيْقَها، أَوْ على الأَقَلِّ كَشْطَ الذُّبابةِ مِن تَحْتَ غُرَّتيْ، كانتْ الذُّبابةُ تُضايِقُني. اِسْتَغْرَبَتْ خالَتي، وَقالَتْ إنَّها لا تَرَىْ أَيَّ ذُبابٍ، مَعَ أَنَّ الذُّبابةَ واضِحةٌ تَمامًا. قالَتْ إنَّ النَّاسَ عِنْدَما يَتَعَرِّضونَ لِتَجارِبَ صَعْبةٍ قَدْ يَرَوْنَ أَشْياءَ غَيْرَ مَوجودةٍ. وأنا أقولُ إنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُفّونَ عَن رُؤْيَةِ أَشياءَ مَوجودةٍ عِندَما يَتَعَرَّضونَ لِتَجارِبَ صَعْبةٍ. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
ما زِلْتُ أَسْمَعُ صَوتَ المصوِّرِ وَكَأَنَّهُ الآنَ يَقولُ بِلُكْنَةٍ غَريبةٍ، لَكِنَّها مَفهومةٌ: "لا تَتَحَرَّكيْ"، "لا تَتَحَرَّكيْ". في الواقِعِ أنا كُنْتُ ثابِتَةً، وغَلَبْتُ رَغْبَتيْ المُلِحَّةَ في طَرْدِ الذُّبابةِ. هو الذي كان يَرْتَجِفُ ويَرْتَجِف. كُنْتُ صَغيرَةً، بِنْتاً في السادسةِ مِنْ عُمْرِها. أَحْسَسْتُ بِأَنّني لَوْ قُلْتُ لَهُ إنَّني ثابِتةٌ، وإنَّكَ أَنتَ مَنْ يَرْتَجِفُ، فإنَّ صَوتي لَنْ يَصِلَ. صَوْتُ الأَطْفالِ الصِّغارِ في المَجازِرِ الكَبيرةِ لا يَصِلُ. لَقَدْ خَبِرْتُ ذَلِكَ جَيِّدًا.